حول القتال في الإسلام

سؤال جديد متجدد

 

يسألني أخ كريم عن معنى قوله تعالى:

"قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون" التوبة/29

 

ولا شك ان هذا السؤال المعلن يخفي وراءه مضمراً قلقاً، حول ما يمكن أن يُفهم من أن هذه الآيات تحض على العدوان على أهل الكتاب، لمجرد أنهم أهل كتاب.

والحقيقة أن أسوأ ما ابتُلي به الدين، هو هذه التفاسير التي تجعل القرآن عِضين، إذ تضرب بعضه ببعض.

ولكي لا يُقال بأنني أرجم المفسرين عن سوء نية، فدعوني أذكركم بما قاله العلماء الأفذاذ، في استقرائهم لمجمل حركة علوم الإسلام.

لقد قالوا: هناك علوم نضجت واحترقت، وهناك علوم نضجت ولم تحترق، وهناك علوم لم تنضج ولم تحترق.

1ـ فمما نضج واحترق علم الحديث، إذ بالفعل تم تدوين كل ما يمكن أن يتوصل إلى حفظه الناس، وتم وضع قواعد التصحيح والتضعيف والوضع، وحُفظت أسماء الرواة وحالاتهم قوة وضعفاً، بحيث لم يعد ثمة استزادة لمستزيد.

2ـ ومن العلوم التي نضجت ولم تحترق، علم الفقه، لأن أصوله وُضعت، فنضج أصل العلم، لكن فروعه تستمر في التزايد لتلبي حاجات الناس، فلا يحترق علم الفقه أبداً، وفيه دوماً زيادة لكل مستزيد يملك أدوات البحث.

3ـ وأما ما لم ينضج ولم يحترق ــ بمعنى أنه سيبقى جديدا في البدايات إلى أبد الآبدين ــ فهو علم التفسير. وذلك لأن كلام الله يصلح لكل بيئة وزمن.

من هنا نقول بأن المفسرين أساؤوا إلى كتاب الله إذ فسروه آية آية، بحيث اختلفت الآيات مع بعضها البعض، فضُرب بعض كتاب الله ببعض.

والحق أن من قال الآية السابقة من سورة التوبة، هو نفسه من قال الآيات الآتية:

1ـ "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين" البقرة/190

2ـ "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُون" المائدة/82

2ـ "لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين" الممتحنة/8

فنحن لكي نفسر تفسيرا سليماً، يجب أن نرد الآيات إلى بعضها، لكي نخرج بحصيلة نهائية.

وهكذا نكتشف أن آية التوبة، هي تحريض على قتال قوم هم معتدون منذ الأصل. ولولا أنهم معتدون، لما حرضنا الله على قتالهم، لأنه سبحانه كان قد نهانا عن قتال من لا يقاتلنا (البقرة190).

كما أنه ذكر أن ليس كل أهل الكتاب قبيحين يستحقون القتال (المائدة 82).

بل أمرنا بأن نحسن إليهم (الممتحنة 8).

إذن فالواقع أنه، في آية التوبة، يحرضنا على قتال من ابتدأنا بالعدوان.

كيف ذلك؟

دعونا ننظر إلى الواقع الدنيوي، للدولة الإسلامية العربية، وقت نزول الآيات. وقبل ذلك دعونا نضع بين أيدينا مقولة أبي بكر الصديق ـ بعد أقل من سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ حين قال: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان، بخالد بن الوليد".

إذن فثمة وساوس يعلم الخليفة الأول أنها تراود قيصر الروم، بشأن دولة صغيرة، ذات دين جديد، وقومية تُلهب مشاعر المُستَعمَرين العرب في الشام.

أما الدولة العربية الإسلامية الوليدة، في الجزيرة العربية، فمحاطة بسور حديدي ناري، من الأعداء الأقوياء المنتظرين لأدنى فرصة:

أولاً: ففي الشرق والجنوب إمبراطورية الفرس، التي تحتل العراق والبحرين ومضيق هرمز واليمن. وكلها بلاد عربية، يتوق أهلها إلى اتباع الدين، الذي بدا لهم قومياً، في عاصمة روحهم مكة. لكنهم لا يجرؤون.

أولاً/أ: فنحن ما نزال نذكر كيف أرسل كسرى لعامله في اليمن، أن يقبض على محمد صلى الله عليه وسلم. وقد جاء الرجل إلى المدينة لهذا الغرض، لولا أن الله قتل كسرى، كما أخبره بذلك النبي المستهدف بالقتل.

أولاً/ب: كما رأينا كيف أسلم أهل اليمن طائعين، بمجرد أن ارتفع عنهم سيف الإرهاب الفارسي، حتى قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، قولته المشهورة: "الإيمان يماني والحكمة يمانية".

ثانياً: وأما العراق فتسكنها قبائل عربية مضطهدة محتلة، اضطرت إلى خوض حرب قبل قليل، للدفاع عن نفسها من الإبادة (يوم ذي قار) ثم انتهت الحرب بنصر عربي تكتيكي صغير، تم بعده وضع شروط الهدنة بين العرب والفرس، بما يحقق مصالح الدولة الكبرى.

ثانياً/أ: ولعلنا نذكر ـ في هذا الصدد ــ مقولة المثنى بن حارثة للرسول صلى الله عليه وسلم، حين كان يعرض نفسه على القبائل، قبل الهجرة، إذ اقترح على الرسول أن يحميه من العرب فقط، أما من الفرس، فلا.

ثانياً/ب: كما نذكر أن الرسول رفع يديه بالدعاء للعرب بالنصر على الفرس يومها، وكان الرسول قد هاجر إلى المدينة حديثاً.

ثالثاً: أما في الغرب والشمال، فمصر وبلاد الشام:

ثالثاً/أ: وغني عن التذكير أن بلاد الشام كانت عربية منذ ما قبل الإسلام بدهور. ومن ثم فقد كان أهلها يتوقون لدين النبي (العربي)، خصوصا وقد عانوا طويلا من الاضطهاد الديني المذهبي، على يد الكنيسة البيزنطية، التي لم تقبل بمذهبهم الديني الكنسي، وفرضت عليهم مذهبها بالقوة. ولا ننسى هنا أن مذهب نصارى بلاد الشام كان (الأريوسية) وهي نحلة مسيحية ترفض ألوهية المسيح.

إذن فهم يرون في بلادهم، وبلسانهم، ديناً جديداً يقول بهذا وأحسن، ولا يمنعهم من الجهر بتصديقه إلا كنيسة القسطنطينية.

ثالثاً/ب: أضف إلى ذلك أن في الشام بيت المقدس، التي لا يستطيع الإسلام أن يغفل عن حقيقة أنه الولي الشرعي عليها، باعتباره الدين الأخير، والدين القادر وحده على كفالة حرية العبادة فيها. ودعونا لا ننسى المذابح العظيمة لليهود على أيدي الروم، خلال سنوات الحكم الروماني؛ والمذابح المماثلة لمسيحيي القدس، على أيدي اليهود خلال سنوات الاحتلال الفارسي القريب العهد.

ثالثاً/ج: وأما مصر فقد سكنتها قبائل عربية مبكراً، حتى يمكن أن يُقال بأن العرب المشركين كانوا فيها منافسين سكانيين للأقباط المسيحيين، منذ وقت مبكر من العصر الجاهلي.

ثالثاً/د: ثم دعونا نتذكر بأن مصر محتلة من قبل الروم، وأنهم يسومون أهلها المسيحيين سوء العذاب، لأنهم يتبعون كنيسة مستقلة عن كنيسة القسطنطينية، ويولون وجوههم قِبَل بابا وطني هو بابا الإسكندرية المصري، معرضين عن المطران الروماني في القسطنطينية. والكلام على اضطهاد الرومان لأهل مصر مشهور جداً، وموثق جداً، وتقر به الكنيسة المصرية الحالية.

لكل ما مضى، كان لا بد لهذا الدين، ولهذا النبي، ولهؤلاء الراشدين من خلفائه، أن يحرروا هؤلاء الناس من هيمنة الأجانب، ثم يدعوهم يختارون ما يشاؤون من الدين.

وقد حدث ذلك. ورحب أقباط مصر بالمحررين العرب أيما ترحيب، إلى درجة أنهم سرعان ما اختاروا دين الفاتحين بعد مدة يسيرة.

إن الإسلام هو بطبيعته دعوة عامة لتحرير الناس، من قهر الأديان جميعها، وإتاحة الفرصة لهم ليختاروا ما يشاؤون. فلم يكن دين هذه طبيعته مستطيعاً أن يصم أذنيه عن ثلاثة أمور:

1ـ الأخطار الاستراتيجية التي تحاصر الدولة الوليدة من الجهات الأربع.

2ـ الرغبة في إيصال كلمة الله إلى الممنوعين من سماعها.

3ـ طبيعة الواقع التاريخي في العالم وقتذاك، حيث يقر العالم كله بمبدأ الفتح الإمبراطوري.

وفي واقع كهذا، لا يمكن لدولة وليدة أن تقبل بالكمون حتى الموت، في جزيرة من الرمال والحجارة السود.

لقد أثنى العالمُ القديم على الفاتحين العادلين، كالإسكندر ويوليوس قيصر، لما جاءا به إلى البلدان المفتوحة من عدل وسلم وخير. ويكفينا أن نتذكر هنا قصة ذي القرنين في القرآن. وسواء وافقنا على أنه الإسكندر أم لا، فلا شك أن كتاب الله قد امتدح فاتحاً ينشر الخير من خلال الحرب.

وأخيراً يجب أن نتذكر أن كل ذلك كان مجرد فعل تاريخي بشري، أجاب فيه الإسلام على سؤال زمنه، ولا يمكن أن يُحاسَب عليه بأثر رجعي، لمجرد أن الناس قد اخترعوا قوانين جديدة بيضاء اللون، في القرن التاسع عشر الأوروبي.

النتيجة:

القتال مفروض لدفع العدوان. وحين تبدأ الحرب، تبدأ الآلة الإعلامية بالتحريض. فالآية مدار السؤال، هي تحريض ميداني تُرد أصوله ـ بعد النصر ـ إلى باقي الآيات المانعة من قتال غير المعتدين.

أما الجزية فهي واحد من أمرين، كل أمر منهما له حالته الخاصة:

1ـ فهي ـ من جانب ـ إذلال مقصود (وهم صاغرون) لهؤلاء البادئين بالعدوان.

2ـ وهي ـ من جانب آخر ـ ضريبة بدل الخدمة العسكرية للسكان المسالمين، الذي يفضلون البقاء على دينهم، ويشعرون بالقهر فيما لو أُمروا بعبادة الجهاد التي هي ليست من دينهم.

هكذا نجمع بين آي التنزيل ـ إن شاء الله ـ فلا نجعل القرآن عضين.

والله يقول الحق، وهو أعلم بالحق، وهو الهادي إلى معرفة الحق.