السيرة الهلالية

 

استهلال:


شيحة زوجة السلطان حسن الهلالي، أخت البطل أبي زيد، تودع الرواد الأربعة (أبناءها الثلاث وأخاها الفارس) الراحلين إلى بلاد الغرب للبحث عن بلاد جديدة، بعد سنوات المحل في بلاد نجد.

يبدأ شاعر الربابة بالرواية عنها، ثم يلتفت بالرواية على لسانها، فيقول:

شيحة تودعهم وشيحة تقوللهم

مع السلامة يا ثلاثة وخالهم

مع السلامة يا كبار العرايب

بدي أوصيكم وصونوا وصاتي

ترى وصاتي للقلوب طبيب

أول وصاتي: لا توقدوا النار في الليل بالخلا

ترى النار تاري* والحماد يجيب

ثاني الوصايا: لا تدخلوا من باب واحد

ترى العين في المتجمعين تصيب

ثالث وصية: لا تقعدوا تحت حيطة عالية

ترى البنا يبني والأساس يخيب

رابع وصية: عجلوا إن وردتم ع المناهل

شرب القطاية والتفاتة ذيب

خامس وصية: عليكم بخالكم إن خابت علومكم

ترى ابو زيد في ضرب الرمال عجيب

سادس وصية: عليكم بيحيى إن نقص زادكم

ترى يحيى من دين الشحاح يجيب

سابع وصية: عليكم بيونس عند صعب المسائل

ترى يونس في رد الجواب عجيب

ثامن وصية: عليكم بابو زيد إن جاكم ضيم من العدا

ترى خالكم في يوم الزحام عطيب

*تاري: تتوهج من بعيد

الشخصيات:


يدور محور السيرة الهلالية حول سبع شخصيات رئيسية، هي: السلطان حسن، وذياب بن غانم، والأمير أبو زيد الهلالي، وشيحة زوجة السلطان حسن وأخت أبي زيد الهلالي، والزناتي خليفة بطل تونس، وسعدا جميلة الجميلات ابنته، و(الجازية) أخت السلطان حسن، المتزوجة من الشريف شكر، وتختار الرحيل مع قومها، مخلفة إياه في بلده مكة، لتقوم بدور المرأة القوية الملهمة لقومها في حلهم وترحالهم.

وتنقسم السيرة إلى ثلاثة أقسام، يمكن إدماج القسمين الأول والثاني ليصبحا قسماً واحداً، سنسميه القسم الأول: ويصف تاريخ بني هلال في بلاد السرو ـ وهي منازل حمير بأرض اليمن ـ وينقل لنا أن أصول القبيلة تعود إلى أخوين هما: جابر وجبير ابنا المنذر الهلالي. وقد تفرق الأخوان، بعد أن رحل جبير بأمه من بلاد اليمن، وسكن منطقة نجد، وصار فيها سلطاناً؛ فيما بقي جابر في بلاد السرو.

وقبل أن يذهب بنا الحديث بعيداً، يجدر أن نعلم أن البطل أبا زيد ينحدر من سلالة جابر، فيما ينحدر ذياب بن غانم من سلالة جبير.

أبو زيد الهلالي سلامة: أسطورة الأصل:


تزوج الأمير رزق (الخضرة) بنت شريف مكة، وأنجب منها الأمير أبا زيد. لكن السيرة لا تترك هذا الحدث يمر مر الكرام، بل تستغله لتأكيد الخارق في بطولة البطل، وتمهد له بالحدث الأسطوري.

والحدث الأسطوري هو أن الخضرة بنت شريف مكة كانت عاقراً، فدعت ربها يوماً وهي على عين الماء، وقد رأت صقراً ينقض على الطيور، فقالت:

ـ يا طالبي يا غالبي ترزقني ولد ولو كان أسود زي هالصقر، يهجم هجوم الصقر.

فكأن باب السماء كان مفتوحاً، وتقبل الله دعاءها ورزقها ابنها (بركات).  

وكان بركات بالفعل أسود كأنه عبد حبشي، مما أدى بالزوج ــ الأمير رزق ــ إلى إنكار نسبة بركات إليه، فرحلت الخضرة من مضارب بني هلال مغاضبة، تحمل طفلها إلى أهلها من بني زحلان.

تبنى بنو زحلان الطفل الهلالي بركات، وربوه على الفروسية. ثم علم خبر ميلاده من أمه، فقرر أن يستعيد لها شرفها المفقود.

وفي نهاية المطاف، وبعد العديد من الصراعات، يجبر بركات أباه الأمير رزق على الاعتراف بخطئه، ويعترف بالولد بركات.

لا يكتفي بركات (أبو زيد) بهذا، بل يفرض شروطا صعبة على أهله الهلاليين، وذلك بإجبارهم على أن يفرشوا بساطاً من حرير، ليمتد من بيت الأمير رزق ــ الذي خرجت منه الخضرة قبل سنوات بعيدة ــ إلى بيت الخضرة في بني زحلان، لتسير عليه أمه الشريفة، تأكيداً لبراءتها أمام العالم والتاريخ.

وهكذا أعاد البطل لأمه كرامتها المسلوبة، واستعاد نسبه الشريف، وانتماءه إلى بني هلال، الذين سيصبح منذ اللحظة بطلهم ومفرج كرباتهم، وصولاً إلى تحالفه مع عمه السلطان حسن لفتح بلاد الهند!.

شخصية أبي زيد:


تتميز شخصية أبي زيد بجمعه بين قوتين: قوة الساعد، وقوة الفكر:

فهو بطل الأبطال بلا منازع. وهو الواسع الحيلة الذي يصل بمكره إلى ما لم يصل إليه بقوته. إضافة إلى علمه بالسحر وضرب الرمل، والعديد من الفنون واللغات. فهو يستطيع أن يتنكر في كل الأزياء، وأن يبرع في كل المهن، وأن يتحدث بكل اللغات... إضافة إلى أنه ينحدر ــ من قبل أمه ــ إلى السلالة النبوية الشريفة، رغم أن الشاعر لا يهتم كثيراً لحقيقة أن بني زحلان جاؤوا من بلاد اليمن. فالسيرة الأسطورية لا تلتفت كثيراً إلى حكم العقل، كما يحاول أن يفعل رواد هذه الصفحة.

الرحيل الأول:


لكن المجاعة سرعان ما تلحق ببلاد السرو، فيضطر بنو جابر إلى الرحيل واللحاق بأبناء عمومتهم، أبناء جبير، في نجد. ويحسن الملك غانم، والد ذياب، استقبال أبناء عمومته. ويعيش الفرعان في وئامٍ، تتخلله بعض المناوشات بين الأميرين: أبي زيد وابن عمه ذياب، يجعل الراوي فيها أبا زيد هو المنتصر.

ولا شك أن انتصار أبي زيد على ذياب في هذه المناوشاتن هو الذي سيقرر في وعي المستمعين أن موازين القوى والسيادة قد تحولت، فصار بنو جبير خاضعين لأبناء عمومتهم القادمين.

ورغم أن كلا الفرعين هلالي، إلا أن السيرة تجعل فرع جابر ـ الذي منه أبو زيد ـ يحمل اسم: بني هلال،

فيما تعطي لفرع جبير، الذي منه ذياب، اسم: بني زغبة!.

لا يتوقف الأمر ببني هلال بانتهاء المجاعة، والاستقرار في نجد، بل نجد أن مجاعة ثانية تصيب بلاد نجد هذه المرة، وترغم القبيلة ـ بفرعيها ـ على البحث عن موطن آخر ترتحل إليه، بحثاً عن المرعى والخير والعيش الهنيء.

وهنا كان لا بد من ابتعاث رواد يجوبون الأرض، بحثاً عن أنسب مكان.

وهكذا يقع الاختيار على الفريق الرباعي: يحيى ومرعي ويونس، أبناء السلطان حسن، وخالهم أبي زيد الهلالي.

وهنا تعطي السيرة الشعبية دور الحكيمة لـ(شيحة) أخت أبي زيد وأم يحيى ومرعي ويونس، حين تتقدم مودعة أخاها وأبناءها بالوصايا التي ذكرناها في البداية.

سعدا:


تمثل سعدا بنت الزناتي في الهلالية شخصية العاشقة المولهة التي يقودها عشقها إلى خيانة وطنها.

وسعدا جميلة الجميلات، واقع في عشقها (العلان) ابن عمها، وفارس فرسان تونس. ولكنها لا تعيره التفاتاً. فقبل أن يحل الفريق الرباعي بأرض تونس ـ التي تسميها السيرة بلاد البربر ـ تمهد السيرة لذلك بجعل (سعدة)، ابنة زعيم البلاد: الزناتي خليفة، تقع في حب الفتى مرعي، بعد أن رأت صورته في أحلامها. وعندما ولهها الحب، لم تجد ما تفعله سوى أن تدعو الله بأن يخرب بلاد نجد، ليأتي مرعي باحثاً عن المرعى في تونس، قائلة:

يا رب يا رحمن يا سامع الدعا

يا مرزق البهمان غدر السحايبْ

تمحل بلاد القوم وتخصب بلادنا

وتجيبهم روّاد لاهون سبايبْ

وتجيب يحيى ومرعي ويونس  

وخالهم الاسمر سلامة ابو العجايبْ

الزناتي خليفة:

يا بلوتي ما ابتلاها سبع بغابْ

ولا الزناتي يوم حرب ذيابْ

هكذا ينوح الشاعر على الزناتي خليفة، بطل أبطال تونس، وسيدها، وفارسها، ووالد سعدا.

الزناتي خليفة فارس معدود لا يُغلب، ولا يقوم له ذياب بن غانم ولا غيره، فهو أحد الجبابرة السبعة في الأرض. والشاعر طبعا لا يتنازل ليجيب على تساؤلنا من هم الجبابرة الستة الآخرون، فهو مشغول بالغناء واختلاق الأحداث.

تبلغ قوة الإعجاب، الذي تبديه الهلالية لشخصية الزناتي خليفة، مستوى لا يدانيه سوى مستوى أبي زيد. ودعونا نتذكر كيف خلد الفلكلور الغنائي شخصية الزناتي، بتأثير من السيرة الهلالية. وإن شئت فتأمل أغنية الشاعر الشعبي الأشهر (زكريا الحجاوي) التي تقول:

أبا سعدة  فارس  معدودْ      

على صيته بايت محسودْ

من صوته شاب المولودْ     

على اشنابه يقفوا صقرينْ

على اجنابة يقفوا سبعينْ    

على اكتافه يبنوا القصرينْ

يا صلاة الزين على ابا سعدة يا صلاة الزين

سعدا مرة أخرى:

يرجع مرجوعنا لسعدا في بلاد تونس.

باب السماء مفتوح، ويستجيب دعاء سعدا. وطبعا الشاعر هو من يفتح باب السماء هنا، كما يحلو له!

يستجيب الله دعاء سعدا. ويصل الرواد الأربعة إلى بلاد تونس، وتتواصل سعدا مع حبيبها مرعي، وتربطه بخلخالها ـ قدما لقدم ـ حتى لا يهرب منها. ويعيش مرعي في بحبوحة نعيم سعدا، بقلب بيت الزناتي خليفة، ودون علمه.

لكن الشاعر لا يقبل بتوقف سيرورة الحدث، بهذه الطريقة، فيجعل أبا زيد يتنبه، وينقذ مرعي من سجن الحب الذي أقامته له سعدا، ويعود به سالماً إلى بلاد الحجاز، مبشراً ببدء المسير إلى بلاد الغرب. وهنا ينتهي القسم الأول.

الرحيل الثاني: التغريبة:


من الآن فصاعدا نبدأ بتسمية هذا الجزء من السيرة بالتغريبة، كما هو معروف في تسمية هذا القسم لدى الرواة:

تبدأ تغريبة بني هلال برحيل جموعهم النافرة ـ التي تسد عين الشمس ـ إلى بلاد الغرب.

والحقيقة أن هذه الرحلة هي رحلة حقيقية حدثت في التاريخ، في زمن الحاكم الفاطمي العزيز بالله لمصر. فقد كان المستنصر هو من استقدمهم، فبقوا في الصعيد إلى خلافة العزيز الذي دفعهم إلى تونس، بعد ان كانوا نسوا هدفهم بمصر طوال سنوات. وهذه الرحلة هي التي غيرت التوزيع الديموغرافي في بلاد المغرب، فصار أكثر سكانها من العرب، بعد أن كانت الغالبية من البربر.

دعونا من التاريخ ولننظر كيف يصوغه الوعي الشعبي في الأسطورة:

إن هذه الرحلة لن تكون مثل أية رحلة، إذ يقوم الراوي بحمل بني هلال من الجزيرة  إلى كل من الهند العراق والشام وفلسطين ومصر قبل وصول تونس. وفي كل مكان تكون لهم وقعات، ويقيمون ممالك، ثم يغادرون بطريقة لا يعيرها الشاعر أدنى التفات، ولا يكلف نفسه بأي تبرير. وفي كل هذه البلاد، وفي كل تلك الوقعات، يبرز أبو زيد بطولاته مشاركة مع ذياب. ولا يمنع ذلك من استمرار التنافس بين الفارسين اللدودين، بما يؤدي به إلى وجود العديد من الروايات، التي تقيم نوعاً من التوازن بين البطلين.

ولأن السيرة شفاهية، فقد ظل الراوي الشعبي، في المقاهي والقرى، يعيد تكوين الأحداث بما يوافق هوى السامعين، فمرة ينتصر أبو زيد، فيغضب أنصار ذياب، ليقوم الراوي في اليوم الذي يليه بافتعال انتصار مقابل لذياب... وهكذا دواليك.

الملك شبيب:


تقول جنوب الحميرية بما جرى

بدمع جرى فوق الخدود سكيب

الأيام والدنيا كفى الله شرها

ومن عاش فيها ينظر التنكيب

فما أضحت الا أبكت بعد ضحكها

فيا لها من حسرة بعد شبيب

شبيب الذي فرقع له الرعد بالسما

وصاحت ديوك العرش مات شبيب

شبيب الذي ما ربت الترك مثله

وما ربت الدايات مثل شبيب

شبيب الذي يلقى الضيوف بفرحة

ومسرة ولو كان الزمان جديب

فيا ليت من كان السبب بفارقنا

يقتل بحد الماضيات قريب

ألا يا حمام النوح نوحوا واندبوا

وابكوا على فقد الأمير شبيب

يا هل ترى الأيام عادت تلمنا

وتجمعنا به بوقت قريب

هكذا تنعى جنوب الحميرية زوجها الملك شبيب بعد أن قتله ذاب بن غانم

فماذا حدث؟

في البداية يجدر بنا القول بأن هناك مكاناً في منطقة الأزرق بالأردن، موجود إلى الآن، ومررت به في إحدى سفرياتي، ويسمى (قصر شبيب).

وقصر الشبيب في التغريبة يشير إلى بناء أسطوري مهول، جرى بروعته المثل حتى الآن.

من أشهر المواجهات التي حدثت بين بني هلال وأعدائهم في الطريق، كانت موقعتهم مع (شبيب).

ولأن شبيب هذا مدني بحكم موقعه ـ بل إن الشاعر يجعله تركياً رمزا للعداوة بين العرب والأتراك ـ فإنه يكره الأعراب الرحل، ولا يرى فيهم إلا كل شر، الأمر الذي يؤدي به إلى منعهم من ورود الماء، وهو ينشد:

من وين يا عرب الردى جيتو بلادنا       

ومن وين ظعنكو ممدود؟

من وين يا عرب الردى جيتو بلادنا      

انتم تتار، والا بقايا هنود؟

وهنا لن يكون أمام الهلاليين من حل سوى قتل شبيب. ويتولى قتله ذياب بعد تحريض مرير من الجازية، وقد علمت ـ من ضرب الرمل ـ أن موت شبيب لا يكون إلا على يديه.

يبدو أن شبيب من صناعة شاعر شعبي عاش في زمن الاحتلال العثماني ويكره الأتراك.

لكن ثمة روايات أخر تقول إن السلطان حسن هو من قتل شبيب.

ويبدو ان الصراع بين بني هلال وبني زغبة يجعل الشاعر يغير من روايته في اليوم التالي إرضاء للمستمعين.

المهم ــ في الرواية الهلالية ــ أن السلطان حسن قد جرح الملك شبيب. وتركه طريح الفراش، بعد يوم شاق من صراع الجيشين. فبادر أبو زيد إلى الحيلة، إذ تزيا بزي طبيب وألوانه وملابسه، وذهب يجوب في الآفاق ويقول:

ــ أنا الطبيب أنا الحكيم، أنا الطبيب انا المداوي، أداوي كل العلل، وأشفي كل الجروح بإذن الله....

حتى وصل الى قصر شبيب، فأدخلوه عليه، وكان معصوب الرأس، ففك العصبة ومسح الدم ووضع له المراهم وبشرهم بالشفاء. لكن شبيبا عرفه فأنّ بصوت خفيض:

ــ هذا أبو زيد! ! هذا أبو زيد! !

فسأل الحاضرون أبا زيد عما يقول الملك، فأخبرهم بأنه يقول:

ـ اخرجوا بعد أن تملأوا السراج زيت..

فخرجوا، فذبحه أبو زيد.

بعد مقتل شبيب، يواصل عرب بني هلال مسيرتهم نحو تونس. وحين تهل جموعهم التي تسد عين الشمس، تهرب الحيوانات من صحرائها محتمية بالمدن التونسية. فيفرح الصيادون لسهولة اصطيادهم الغزلان. فيقول الشاعر الشعبي مخاطبا إياهم في نبوءة أسطورية صارت مثلاً:

لا تفرحوا بالصيد يا صايدين الغزلان

ترى ما بعد الصيد إلا أمورٍ عجايبْ

يصل جيش بني هلال إلى تونس، وتهوله أبوابها المغلقة الحصينة، وينادي أبطالها للخروج للمبارزة. فيخرج فارس الدنيا الزناتي خليفة، كل يوم، ليصرع أبطالهم في ساحة النزال. وحتى عندما يتصدى لقتاله أبو زيد، لا ينجح أي منهما بهزيمة الآخر.

أما الجازية ام محِمّد ــ بسكون الميم الأولى، ثم كسر الحاء بعدها، وتشديد الميم الثانية وفتحها ــ فتضرب الرمل، فتعلم أن القدر حكم بأن قتل الزناتي لا يكون إلا على يد ذياب. وفي هذه المرحلة ذياب بن غانم معتزل للحرب، غضباً من تصرفات بني هلال معه. وهنا تتدخل حيل أبي زيد، لجلب ذياب إلى ساحة الوغى.

الجازية ام مْحِمَّدْ:


أبو زيد عينيه وذياب حواجبي

وايش زينة العينين إلا الحواجب

هكذا تغرد الجازية، داهية بني هلال، وسيدتهم، التي كان يقال بأن لها نصف القول. بمعنى ان لها نصف الرأي وحدها في الاقتراع عند المشورة.

تغرد الجازية هذا، محاولة التوفيق بين البطلين المتنافسين، أبي زيد وذياب، حين جاءا يسألانها من تحب منهما أكثر؟

لقد كانت أخت السلطان حسن الداهية، تدرك أن أغلب خيوط اللعبة في يديها.

ويبدو لي ـ من خلال تتبعي لبعض المصادر الشفاهية ــ أن السيرة الهلالية سيرتان: مشرقية ومغاربية. فلا شك أنه ليس مطروحاً ــ من المشارقة الذين غزو بلاد المغرب ــ أن يسألوا المغاربة عن رأيهم في غزو الهلاليين المشارقة لبلادهم.

والحق أن هلالية المشارقة منحت الزناتي خليفة تقديرا عظيما، لم تمنحه هلالية المغاربة للجازية.

لقد قيل لي إنهم في المغرب العربي يعتبرون اسم الجازية رمزا لكل شر، بعكس المشارقة الذين يعتبرونها حكيمة العرب.

دعونا نتذكر أن الزناتي يعرف أن موته سيكون على يد ذياب ــ وذلك لأنه (عالم كبير) في ضرب الرمل ــ لكن دواعي الفروسية تدعوه للاستجابة إلى صيحة ذياب النزال حين يدعوه. لذا فهو كالبطل التراجيدي: حين ينزل إلى المعركة، فهو إنما ينزل وهو يعلم أنه مهزوم لا محالة. لكن قدر البطولة أن يستجيب الفارس للنزال..

أي ابتلاء هذا، أن ينزل البطل إلى الموت المحتوم، دفاعاً عن البطولة الأبدية!

لذا فقد أبدع الشاعر حين وصف هذا الصراع النفسي، داخل وعي الزناتي بقوله الذي سبق أن أوردناه:

يا بلوتي ما ابتلاها سبع بغابْ

ولا الزناتي يوم حرب ذيابْ

لذياب بن غانم له ابن أخت رائع أعز على قلبه من أبنائه. وهذا الولد يغريه أبو زيد باختلاس فرس خاله ذياب ودرعه، والنزول لقتال الزناتي. فيخرج الشاب مرتديا درع خاله، راكبا فرسه، ينادي الزناتي للقتال، فيخرج الزناتي وقد ظنه ذياب.

وما هي إلا جولة او جولتان حتى يصرع الزناتي الشاب الهلالي، ويظن أنه قتل ذياب.

وهكذا تذهب أخت ذياب لذياب تنوح ونولول وتمزق شعرها، فيخرج في اليوم التالي من معتزله ليبارز الزناتي

المكتوب ع الجبين:


يخرج ذياب لقتال الزناتي. ويفتح الزناتي باب الحصن ويخرج مستعدا للمبارزة. وتستمر المعركة بين البطلين ثلاثة أيام بطولها، لا يتمكن أي منهما من هزيمة خصمه. وفي اليوم الرابع يكر الزناتي على ذياب فيقهره، فيفر من وجهه ذياب فزعاً وقد أحاط به الموت من جوانبه!.

يطارد الزناتي ذياب، وذياب أمامه يهرب على فرسه الخضرا، مولياً الأدبار لا يلوي على غير حياته.

يقترب الزناتي من ذياب ليطعنه بالرمح، وذياب يولي الأدبار.

خلال هروب ذياب، فيما الرمح على كتفه يتأرجح إلى الأمام والوراء، تعود مؤخرة الرمح إلى الوراء بعنف بفعل الهرب العنيف من حاملها، فتخترق عين الزناتي وتدخل عميقا في رأسه، فيسقط البطل تحقيقا لأمر القدر المكتوب على الجبين.

يسقط البطل الزناتي خليفة صريعاً، فتهجم سعدا وهي تولول، فيحدق فيها الزناتي بعينه الباقية وسط الموت وهو ينشد:

وانا  ابوكي يا سعدا وانا حنظل العدا   

وانا بيضة القبان لاقعد قبالها

وان عشت يا سعدا، وصار في العمر مدةْ 

لانصب لك مشنقة واطوّل حبالها

الزناتي يعالج سكرات الموت. وبنو هلال واقفون عند رأسه معجبين مذهولين.

سنلاحظ هنا إهمال الشاعر لذياب، كأنه متعاطف مع الزناتي

تحدق الجازية في وجهه الفارس الجبار لأول مرة عن قرب وهو يموت..

وهنا دعونا نتذكر أن الجازية ـ مثل كل بنات الملوك ـ تعتبر نفسها أسمى مقاماً من أن يجرؤ أحد على أن يطمع في نوالها. فهي تحدق سافرة في وجوه كل الرجال، واثقة من صغارهم امام نظراتها.

أما هنا فقد أحست في الزناتي خليفة، برجولة غير معتادة، تقهر كل الرجال والنساء. ولعلها شعرت بفحولة غير معتادة كذلك في نظرات الجبار الصريع، ففرت إلى نقابها تغطي به وجهها خجلاً وإعجاباً.

يلاحظ ذلك أبو زيد المعجب بالفارس الصريع، فينشد:

سلامتك يا ملو عين العاهرةْ، لا يا خليفة

يا ريتك من هذه الوقعات تطيب

فيلتفت إليه الزناتي مفصحاً عن إعجاب مماثل، وهو يقول:

تمنيتك يا ابو زيد اخوي ابن والدي

وانا احارب الدنيا واقعد قبالها

لكنه يموت، ويترك سعدة نهباً للمتنافسين.

سعدا أخيراً:


سعدا الآن نهب للمتنافسين؛ فلا أحد هنا يفكر في منحها الاقتران بمرعي، ولا مرعي حتى يريدها.

ولأن قانون الحرب يقول بأنها يجب أن تكون من نصيب ذياب، إلا أن بني هلال هنا يتصارعون عليها، فهم يعرفون أن ذياب حين قتل أباها لم يكن سوى وغد صغير.

وعندما يهدد التنافس الهلاليين بالانقسام، يقترح ذياب أن توضع سعدا في نهاية الشوط، ويتسابق الفرسان للوصول إليها.

وهكذا يحدث، وتسبق فرس ذياب جميع المتنافسين، وبمجرد وصول ذياب سعدا على ظهر فرسه، وقبل أن يدركه أحد، يغرس رمحه في صدرها ويقتلها، مؤكداً أن لا خير فيمن خانت قومها.

بعد خراب تونس:


بعد قتل الزناتي خليفة يختلف الهلاليون على قسمة الأملاك والغنائم، وتثور الحرب بين بني هلال وبني زغبة. ورغم توصل الفريقين إلى مصالحة مرضية، يقوم ذياب بقتل كل من السلطان حسن وأبي زيد غيلة، الأمر الذي يعطي للجازية مبرراً لخوض المعركة مرة أخرى، للقضاء على ذياب وقومه، حيث يتولى هذه المهمة (اليتامى) من ذرية أبي زيد والسلطان حسن. ولا تنتهي المعارك إلا وقد قتلت الجازية ذياب بن غانم، وسيطر اليتامى على الممالك.

وبهذا تم الأخذ بثأر أبي زيد الهلالي والسلطان حسن.