حوار مع جريدة الحياة منشور بتاريخ 5 سبتمبر 2016

أجراه سامي أبو عون
إضاءة: هذا نص المادة قبل وقوعها بين يدي التحرير:


العنوان كما ورد في الصحيفة:


في حوار مع «الحياة الثقافية 


محجز: الغثاثة تسيطر على المشهد الثقافي في غزة 



«الحياة الثقافية» تلتقي أستاذ الأدب الحديث وتحاوره حول رؤيته للواقع الثقافي، وجدلية الاقتصاد والسياسة والثقافية ومحاولاته لإضاءة العتمة المخيمة على مشهد القطاع. كما يتحدث عن أحلامه وطموحاته.


* كيف تقيم المشهد الثقافي والسياسي؟


لا شك ان المشهد الثقافي يعاني الكثير. وجزءٌ من هذه المعاناة ناتج عن الوضع السياسي، فيما هناك جزء آخر من طبيعة البشر، هو هذا الجزء من المشتغلين في المشهد الثقافي، وطبيعة علاقات الناس بالعاملين بالثقافة. 

الوضع السياسي في قطاع غزة ضد الثقافة. فمعروف أن الثقافة تحتاج الى جو من الحرية، لا يحتمل القمع، ولا يتعايش معه. وقطاع غزة يعاني من القمع الفكري، القمع من قبل الفئة الحاكمة، والقمع من قبل القراء.
الجهة الحاكمة في قطاع غزة لا تحتمل الثقافة، لا تحتمل أن يُوجه اليها النقد، أو أن يُفحص سلوك مسئول من مسئوليها، ولا تحتمل مبدأ حرية النشر، المنصوص عليه في الدستور الفلسطيني. فنحن نعلم أنهم في غزة قد اخترعوا ما يسمى بقانون المطبوعات. وهو قانون اختُرع خصيصا لمنع الكتاب والمثقفين من نشر كتبهم ومطبوعاتهم، التي لا تروق في بعضها لحكام غزة، او لرجال الدين المتحالفين معهم.
أما من جهة القراء، فقد تعود على كثير من الكتابات الغثة، التي تطلق على نفسها اسم (شعر) أو (رواية). لذلك فقد زهد القراء في الشعر والراوية، ولم تعد بهم حاجه الى قراءة روايات جادة، أو شعر جميل، لأن تجربتهم مع هذين النوعين من الابداع، هي تجربة مؤذية.. يمكن القول بأن لدينا في غزة ما يزيد على خمسة آلاف شاعر، وألف روائي. وهذه عدد غير طبيعي، يدل على أن حجم الابداع ــ لدى شعب الجبارين ــ هو كبير أكثر من اللازم. إذ بإمكان أي أحد أن يطالع المنشورات على الانترنت، وصفحات التواصل الاجتماعي، ليدرك الغثاثة التي تسيطر على المشهد الثقافي الفلسطيني.
وعلى مستوى النقابات، لدينا نقابتان للكتاب والأدباء، ونقابتان للصحفيين. ومجمل ما نعرفه عن نقابتنا الرسمية (اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين) أن السياسيين يسطرون عليها. وبالتالي فلا يُرجى أن تنهض نقابة بهذا الشكل.
أما على المستوى الاقتصادي، فيبرز دوماً السؤال: هل يستطيع الفقير المعدم الذي، لا يدخل بيته في اليوم الواحد عشرة شواكل، أن يشتري كتابا بعشرين شيكلاً؟ هنا تبرز لدينا الجدلية الأساسية حول أيهما أولى: خبز الأولاد، أم قراءة ديوان من الشعر؟
أمر آخر هو هذه «الميلشيات الثقافية»، التي تتجمع مثل عصابات سياسية، تحت أسماء متعددة: فهذه مليشيات شواعر النسوية، وهذه ميليشيات الشعراء الشباب، وهذه ميلشيات المبدعين الفتيان، وهذه ميليشيات مبدعين من ذوى الحجات الخاصة... الخ
هذه تسميات كلها ليست ثقافية ولا شعرية، بل هي مجرد تجمعات تطرح شعارات، مهمتها ابتزاز القراء والسلطة الثقافية، إن وُجدت سلطة ثقافية. فالنص الجميل لا يحتاج الى نقابة أو ميليشيا تدافع عنه بالرصاص. ودعنا نتذكر هنا أن الكلمات رصاص.


* هل استطاع المفكر خضر محجز أن يواجه الحالة المعتمة بكل زواياها؟


لا يستطيع أحد بمفرده أن يواجه جيوش الظلام وحيداً، وانما يستطيع أن يصرخ من الألم. وصرخته هذه بحد ذاتها هي سلاحه الاقوى. إن سلاح الثقافة هو ناعم كورق الورد، لكنه في الوقت نفسه مؤلم ومميت كحد الشفرة. بإمكان القوى الظلامية ــ كما يحصل غالباًــ إيذاء المثقف، ولكن إذا استمسك المثقف بالصبر، واستنهض قدرته على التحدي، فسوف يكون هو المنتصر في النهاية.
ليس الانتصار هنا بمعنى أنه سيغير نظام الحكم، أو الآراء السائدة لدى الجمهور مرة واحدة، ولكنه يبث الوعي في الناس، فيبدأون في رؤية الأشياء بطريقة مختلفة، ومن ثم تتكشف لهم الحقائق، ويشعرون بالغضب رويدا رويدا. هذه الغضب هو الذي يغير كل شيء، ولكن وفق متوالية زمنية تستغرق وقتا طويلا الى حد ما.
إن معركة المثقف مع العتمة لا تُحسم بالضربة القاضية، بل إن العتمة هي التي تسعى الى حسم المعركة بالضربة القاضية، بسبب قوتها المادية. لكن المثقف يجمع النقاط في كل جولة، حتى يحقق الانتصار في آخر المطاف بالنقاط. هذا شيء تدركه العتمة ويقلقها، ومن هنا فقوى الظلام لا ترحب بالمثقفين، وبودها لو حولتهم جميعا الى رجال دين، يطلقون البخور من حول الحاكم، ويسندون ديمومتهم بالفتاوى.


* هل تشعر بالظلم ــ باعتبارك مفكراً ــ ومن أي النواحي تشعر بالظلم؟


أنا مفكر من عمق الشعب، منحاز الى الفقراء. وبالتالي فأنا أشعر بأن عدو الفقراء هو عدوي..
أشعر بالظلم، كلما سمعت بالمساعدات التركية، توزع على أنصار هذه الحزب أو ذاك، في الليل..
أشعر بالظلم عندما يتم استمرار جدول الكهرباء الاجرامي هذا، رغم ما يقال من أن السولار المدعوم يصل الى محطة الكهرباء، وأتساءل: أين يذهب هذا السولار مادام الجدول لم يتغير؟..
أشعر بالظلم حين يتم انتهاك أو تجاهل القانون، في التعامل مع الناس. وفي هذا الصدد دعني أتذكر القضية التي لفقها لي الحزب الحاكم في غزة، الشهر الماضي، حيث لم يكلف المحقق نفسه بسماع دفاعاتي، ورفض استدعاء شهودي، ثم زيف أقوالي بخط يده، انصياعاً لرغبة الحزب الحاكم. ورغم إثبات الحالة أمام وكيل النيابة، وحضور مندوبي مركز الميزان، الذي قدم للجهات الحكومية في غزة شكواه بشأنها، إلا أنه لم يتم عمل شيء بخصوص ذلك حتى الآن!.. هنا يحق لي أن استنتج بأن القانون مغيب في غزة..
أشعر بالظلم عندما أرى الناس يتشاجرون فيقتل بعضهم بعضاً، ثم لا تتدخل الشرطة، كما حصل في جباليا البلد قبل يومين، عندما قُتل شخص في مشاجرة وجرح عديدون..
أشعر بالظلم عندما أذهب الى المطبعة، لأطبع رواية من رواياتي، فتطلب مني دار النشر موافقة هذه الوزارة أو تلك، مع يقيني المسبق بأن هذه الوزارة لن توافق على ما أكتبه..
أشعر بالظلم عندما أرى الشارع، في الحي الذى أسكنه، يتم رصفه بطريقة ظاهرة الفساد، فأتصل بمهندسي البلدية ومهندسي وكالة الغوث ــ الذين أشرفوا على المشروع ــ فلا أنال منهم سوى الاهمال.
إن دواعي شعوري بالظلم، في هذه الوطن، كثيرة. وأخشى أن اقول بأنها غير قابله للحصر.


* مفكرنا الكبير، هل تعتقد أن ثمة ربطاً بين المشهدين الثقافي والسياسي؟


نعم، أعتقد ذلك، بل وأجزم به. فالسياسة هي خبز الحياة اليومي. ولا يمكن الحديث عن الشأن الثقافي، دون التطرق الى الوضع السياسي:
فقانون المطبوعات شأن سياسي يتناول الثقافة ويؤثر عليها..
وحرية البث في القنوات التلفزيونية، شأن سياسي، ويؤثر على طبيعة الموضوعات المطروحة.
إنك لا تستطيع في غزة ــ مثلاً ــ أن تتكلم مع أغلب الاذاعات، لأنها تمتنع عن إغضاب الحاكمين. وغضب الحاكمين في غزة سريع ومدمر، تخشاه الإذاعات. أنا شخصيا كنت ضيفا شبه أسبوعي في إحدى الاذاعات في غزة. وبعد تغيير سياسي ما، في إدارة الحزب الذي يدير الاذاعة، لم تعد الاذاعة تتصل بي، بل وتم تغيير الطاقم المنفتح الذي كان يتصل بي وبأمثالي.
أيضا الصحف اليومية، يا سيدي، ألم تكن تُمنع من دخول قطاع غزة، وبالعكس؟ أليس هذا ترابطاً بين الثقافة والسياسة؟
وعلى الصعيد الابداعي: هل يستطيع روائي فلسطيني أن يصنع شخصية فلسطينية تربطها مشاعر جميلة بفتاه صهيونية، صدف أنها مجنده في الجيش؟ هذه كلها أشكال من ارتباط الثقافة بالسياسة. وفي هذا الصدد، دعنا نتذكر قصة الشاعر الراحل محمود درويش مع ريتا.
النتيجة هناك تلاحم حميم بين الثقافة والسياسة.


* هل الانقسام أثر على المفكر خضر محجز والى أي مدى؟


لاشك أن الانقسام أثر تأثيرا عميقا في وعيي خاصة، كما أثر في وعي الجميع. وأذكر أنني حين حدث الانقلاب في غزة عام 2007 فقدت توازني النفسي، ولم أستطع استعادة بعضه، إلا بعد أن أفرغت حنقي في مقال حانق، كان من الممكن له أن يودي بحياتي. بمعنى أنن لم أعد الى الحالة الأقرب الى الطبيعية، الا بعد أن نشرت المقال، وأطلقته كل الاذاعات على الهواء مباشرة. وهو مقال شهير بعنوان «كلنا متشابهون في غزة» وقد قيل لي يومها بأن المقال قد وُضع على طاولة اجتماع اللجنة التنفيذية الطارئ بهذه المناسبة.
الانقسام عميق أثره في وجدان الناس جميعا، وفى وجدان المثقفين بشكل خاص. واذا كان الناس يحاولون الآن أن يتعايشوا مضطرين مع هذه الانقسام، فإن المفكرين والمثقفين والكتاب لم يستطيعوا أن يتعاشوا مع هذه الواقع، ويبدو أنهم لن يستطيعوا ذلك من بعد.


* ما هي رؤية المفكر خضر محجز للمستقبل؟


أحلم بوطن حر.. أحلم بزوال الانقسام.. أحلم بتعايش مع المجاورين فى المحيط.. أحلم بديمقراطية تكفل تداول السلطة.. أحلم بمنع نشوء أحزاب على أساس ديني.. أحلم بسلطة قانون مسيطرة على الحاكم والمحكوم.. أحلم بكفالة بحرية الناس في الاعتقاد، وحريتهم في الكلام، وحريتهم في الايمان، وحريتهم في الكفر؛ بما لا يؤدي الى الاضرار بالآخرين.. أحلم بمجتمع الكفاية، وتحرر الثروة الوطنية من الاحتكارات التجارية، كما أحلم بنوع من الكفالة الاجتماعية للطبقات المسحوقة.. أحلم بحرية الاعلام، وإلغاء سلطة العشائر والقبلية ــ ما الذي لا أحلم به؟ ــ أحلم بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع والقدس، مكفول ترابطها الجغرافي.. أحلم بميناء في غزة منفتح على العالم، ومطار في رام الله نطير منه الى كل مكان.. أحلم بعلاقات دبلوماسية حسنة مع كل الدول فى العالم... الخ


* طموحك الى أين؟


ليس لي طموح شخصي، باستثناء أن تُكفل حريتي في الكلام والتعبير، وأن أؤمن مستقبل أولادي، بنفس ما أؤمن به مستقبل أبناء الفقراء.