قصة الوطن الحزين: عرب من أجل إسرائيل

 

نكبة فلسطين الحقيقية في بعض من يسمون أنفسهم أبناءها. وما هم بأبنائها، ولكنهم قوم يتكسّبون، من قضية لها أبعاد نفسية كذلك.

إنهم فلسطينيو الجلد، صهيونيو اللسان والقلب والعاطفة.

وإليكم بعض فصول القصة:

حين كان العدو عدواً، وتعاملت معه بعض الشخصيات عن قرب، في السجن أو العمل أو المفاوضات، أعجبت به، إذ رأته بشراً أكثر تحضراً ورقياً، حتى إنها صارت تتكلم لغته بطريقة تبدو فخراً، أكثر مما هي حاجة تواصل.

المصيبة أن بعض هؤلاء صاروا متنفذين في السلطة، وأخذوا يرون شعبهم مجموعة من الكائنات المتخلفة، مقارنة بمن يجلسون معهم مطولاً في المجالس الممتعة.

لقد تنبه الأدب مبكراً إلى مثل هذا التشوّه الأخلاقي، لدى المختلطين بالعدو.

ففي عام 1942، صدرت رواية "صمت البحر" (Le Silence de la mer) للكاتب الفرنسي "جان بروليه" (Jean Bruller) ووقعها باسمه المستعار "فيركور" (Vercors) إبّان السنوات الأولى للاحتلال النازي لفرنسا، وموضوعها يتناول قصة حياة أسرة فرنسية، أُجبرت على إيواء ضابط نازي في بيتها، خلال سنوات الاحتلال الأولى، قبل أن تنشط المقاومة السرية الفرنسية.

لقد سكن الضابط المنتصر بيت الأسرة المهزومة. ولقد بدا جمال القوة يغزو المهزومين.

حين قرأنا «صمت البحر» رأينا فيها كيف تتحول علاقات القاهر بالمقهور، كيف يمكن للقاهر أن يبدو جميلا في عيني المقهور بطول العشرة واستمرار المخالطة.

واليوم في فلسطين المحتلة نرى شيئاً شبيهاً بهذا، من بعض الأشخاص الذين ولدوا في فلسطين بالصدفة.

«صمت البحر» تروي قصة أسرة فرنسية بسيطة عادية، تقرر أن تتعامل مع الضابط المحتل للبيت بصمت يشبه صمت البحر، فارضة عليه مقاطعة، يشعر معها أنه غريب مكروه بصفته محتلاً يسكن بيتاً بالإكراه.

لقد فرض العم وزوجته وابنة أخيه على أنفسهم، مقاطعة الضابط النازي، وصد كل محاولاته للتقرب منهم.

لكن طول العشرة يفعل بهم الأفاعيل، إذ بدأوا يرون في قاهرهم جمالاً كجمال البشر. لقد صاروا رويداً رويداً يكتشفون أنه شخص متحضر، يستمع إلى «موتزارت» و«باخ» و«بيتهوفن» ويقرأ «شكسبير» ويقبل أيدي السيدات وينحني أمامهن باحترام... إلخ

إذن فقد بدا الضابط النازي بشرياً، بدل أن يكون وحشاً ـ كما هو المفترض ـ إلى درجة وقوع الفتاة في حبه، لكي تبدأ في معاناة نوع من التناقض الوجودي مع النفس، خصوصاً بعد علمها أن (قاهرها المحبوب) سوف يرحل عن بيتهم إلى الجبهة الروسية، فتخرج عن صمتها المقاوم لتقول: (وداعاً). وكأنه كان خطأ كل ما فعلته الأسرة من قبل.

وهذا هو المقطع الذي يلي ذلك مباشرة، على لسان العم العجوز:

"وآلمني وجه ابنة أخي، فقد كان في مثل شحوب القمر. وكانت شفتاها الشبيهتان بحواف زهرية من الخزف منفرجتين، وكانت تتركز فيهما التقطيبة التراجيدية للأقنعة الإغريقية. ورأيت عند الحد الفاصل بين الجبهة والشعر ـ لا أقول: تولد؛ وإنما تنبثق ـ نعم، تنبثق لآلئ من العرق. ولست أدري إذا ما كان «فرنز فون إبرانك» (اسم الضابط النازي) قد رأى ذلك. كانت حدقتا عينيه وحدقتا عيني الفتاة مشدودة بعضها إلى بعض، مثلما يوثق زورق بحلقة على الشاطئ في التيار. وكانت تبدو مشدودة بعضها إلى بعض، كما لو كان يصل بينها خيط بالغ التوتر، وبالغ الصلابة، بحيث لم يكن يجسر المرء على أن يمر بإصبعه ما بين عينيهما. وكان «إبرناك» قد أمسك بإحدى يديه مقبض الباب، وكان يمسك بالأخرى إطار الباب. قال، وكان صوته يخلو بصورة غريبة من أي تعبير:

ـ أتمنى لكما ليلة سعيدة.

اعتقدت أنه كان بسبيله إلى أن يغلق الباب ويرحل. ولكن لا، فقد كان ينظر إلى ابنة أخي. كان ينظر إليها، وقال، بل همس قائلاً:

ـ وداعاً.

ولم يتحرك. كان ساكناً تماماً، وفي وجهه الساكن المتوتر كانت عيناه أكثر سكوناً وتوتراً، وكانتا متعلقتين بابنة أخي البالغتي الاتساع، والبالغتي الشحوب. ولقد دام ذلك، دام، كم من الوقت؟. دام، حتى حركت الفتاة أخيراً، حركت أخيراً شفتيها. والتمعت عينا «فرنر». وسمعت:

ـ وداعاً.

وقد كان ينبغي على المرء أن يترصد هذه الكلمة لكي يسمعها، بيد أنني سمعتها أخيراً، وسمعها «فون إبرانك» أيضاً، وقد اعتدل في وقفته، وبدا أن وجهه وجسده كله قد أصابهما الاسترخاء، مثلما يحدث بعد أن يخرج المرء من حمام مريح. وابتسم، حتى أن آخر صورة حفظتها له هي صورة باسمة".

انتهى الاقتباس.

ولقد أعجبت هذه القصة القراء حين صدورها في سنوات الهزيمة، ونالت شهرة عظيمة لدى الفرنسيين، كما يعجب كويتب فلسطيني صغير بأصدقائه المثقفين الإسرائيليين الكبار.

لكن مع بدء عمليات المقاومة، بعد ذلك، تغير الموقف، وحيل بين الألمان والفرنسيين بحاجز خفي من النار. يصف ذلك سارتر بالكلمات الآتية:

"فلم نعد نرغب في معرفة إذا ما كان الألمان، جناة أم ضحايا للنازية، ولم يعد يُكتفى حيالهم بالاحتفاظ بصمت الكبرياء. على أنهم لم يكونوا ليحتملوا هذا الصمت: ففي نقطة التحول هذه، أثناء الحرب، كان لا مناص من أن يكون المرء معهم أو ضدهم. وبدت قصة «ڤيركور» وكأنها نسيج ساذج، يتغنى بألحان الحب، وسط الضرب بالقنابل والمذابح والقرى المحترقة. ففقدت القصة بذلك جمهورها: فقد كان جمهورها يتمثل فيمن عاصر عام1941، ممن استخذتهم الهزيمة، ولكنهم كانوا في دهشة مما لاقوه من لطف المحتل... وما دام [الجمهور] قد اكتشف، في دهشته، أن غالبيتهم كانوا أناساً مثلنا؛ فكان من الواجب أن يوضح له، من جديد، أن الإخاء كان محالاً، حتى في هذه الحال".

انتهى الاقتباس من سارتر.

وهكذا بدا واضحاً كيف استخذت الهزيمة بعض المختلطين بالعدو، فنسوا أنفسهم، ونسوا وطنهم، وتماهوا في العدو، الذي تحول في نظرهم من وحش إلى بشري متمدن يستحق الإعجاب

ولقد يأتي يوم تنهض فيه الأمة فتلعن كل باردة إعجاب بدت في عيني واحد من أبنائها بالقتلة. لكن الأمة اليوم في مرحلة السبات، لهذا يظهر بين الفينة والأخرى رجال كهذه الفتاة، يودون أن يستلقوا تحت أجساد مغتصبيهم، ليتلذذوا بامتصاص القوة من أصلابهم المنتصرة.

لك الله يا فلسطين

لك الله يا وطني