• فنون
  • 2121 قراءة
  • 04:06 - 01 أكتوبر, 2017

في فلسفة الجمال

 

ليس هناك أدنى مبرر، لمن يمنع الفنان من استخدام أفكارٍ أخلاقيةٍ في فنه. كما أنه ليس هناك أدنى مبرر لمن يطلب من الفن أن يؤدي رسالة أخلاقية. فلوحة العشاء الأخير جميلة، ولوحة الموناليزا كذلك جميلة، رغم أن الأولى تحتوي على أفكار أخلاقية رفيعة، فيما الثانية تحتوي على أفكار جمالية فقط.

إذن فالأخلاق في الفن موضوع محايد، لا يعطي للعمل الفني قيمة جمالية. ذلك أن رسالة الفن هي إحداث المتعة، بمقدار ما هي رسالة الفيلسوف أن يقدم الاستخلاصات العامة المجردة.

فحيثما يستخدم الفنان أفكاراً أخلاقية ـ على نحو ما هو موجود عند شكسبير وغوته مثلاً ـ يكون لدينا فن يحمل معنى أخلاقياً عميقاً، لكنه مع ذلك لا يُخضع الجمال للأخلاق.

لا يكون العمل الفني جميلاً، لأن محتواه الأخلاقي جميل، بل لأنه في ذاته جميل.

إن وظيفة الفن هي تحقيق المتعة، سواء اتبعت نموذجاً أخلاقياً، أو لم تتبعه. فليس كل جميل خُلُقياً جميلاً فنياً.

من ناحية أخرى يمكن القول بأن الأخلاق في الفن جزء من المحتوى، وقد يكون مطلوباً أحياناً. لكن عليه أن يخضع لمقاييس الفن، ومقاييس الفن في غالبها شكلية، بمعنى أن المحتوى في الفن يخضع للشكل، أو شكل المحتوى.

فمن أراد أن يبث في فنه أخلاقاً جميلة، عليه أن يقدمها في ثوب ممتع. والثوب الممتع هو الفن.

فهل معنى ذلك أن لا قيمة للأخلاق في الفن؟

كلا، بل لها قيمة، لكنها قيمة جزئية واحدة من قيم أخرى عديدة، وتخضع لها. بمعنى أن الأخلاق في الفن إن وجدت، فعليها أن تظهر في شكل غير المواعظ، عليها أن ترتدي زياً غير الزي الذي يظهرها فيه الوعاظ والفلاسفة والقانونيون.

إن تمثال (ديمتريا) وتمثال (العذراء) كليهما جميل، مع أن الأول يستمد جماله من رؤيتنا لحركات الجميل في نظر الفنان، وهو يتأمل كمال الجسد الأنثوي، أما الثاني فيستمد جماله من رؤية مشاعر فنان يتأمل الطهارة، ويخضع للتفاصيل.

ولو أن ميكل أنجيلو الذي نحت تمثال العذراء، لم يتمكن من عرض نموذج جميل لامرأة جميلة، تبدو سيما الطهارة واضحة في نظراتها المستكينة.. لو أنه كان أقل براعة في تصوير الثنيات المتعددة في غطاء رأسها، وميله القليل.. لو أنه لم يستطع أن يكون بارعاً في تصوير هذا، لما التفتنا إلى ما تحمله العذراء الحقيقة من طهر حقيقي لم يتم تصويره جيداً.

فما الذي أمتعنا هنا؟ طهارة مريم ابنة عمران، أم براعة النحات في إظهارها أمام أعيننا.

إنه الشكل أيها السادة، شكل المحتوى.

وبالمقابل، لو أن دان كنر الذي نحت لنا تمثال (ديمتريا) اكتفى بنحت الحجر لينتج جسداً مرمرياً صقيلاً ناعماً متناسق التكون، دون أن يلفت انتباهنا إلى الحركة الإغرائية الكامنة في أنثى ترفع رأسها بسذاجة مصطنعة، لترانا نتأمل عنقها، وليبرز صدرها أكثر، ثم لتجعلنا نتأمل كيف رفعت كتفاً أكثر من الاخر، لتبرز ثدياً أكثر من الآخر، فنقارن بينهما في وضعين متوازيين في لحظة واحدة... لو أن الفنان لم يفعل هذا، واكتفى بعرض نموذج للجسد الأنثوي الكامل الذي أنتجه إزميله، لكان بإمكاننا أن نستعيض عنه بصورة فتوغرافية لفتاة إعلانات عادية.

ها هنا امتزج الجمال الطبيعي بالحركة الأنثوية المختلقة، التي نعلم أن الجميلات وحدهن من يعرفن أسرارها. لكن أجمل الجمال كان في تأملنا لقدرة الفنان على إحضار كل هذا أمام أعيننا، في تمثال من الحجر.

دعونا نتأمل فيما فعله جون ملتون في ملحمته "الفردوس المفقود":

توجد رسالة أخلاقية، لكنها لم تُقدم لنا بطريقة الوعظ.

كيف كان ذلك؟

إن ما أعجبنا في "الفردوس المفقود" ليس قصة التمرد الشيطاني على أوامر الله، وليس التحذير الأخلاقي من مغبة طاعة الشيطان، فهذا موجود في التوراة التي استقى منها الشاعر مادته، بل من طريقته في تصوير الصراع، تصوير التمرد في أعمق تجلياته البشرية.

لقد صور ملتون الشيطان في صورة بشرية، وقدم لنا عرضاً لغرور البشر، وتحديهم لما هو أقوى منهم. الشيطان يتحدى الرب. تلك وقاحة أخلاقية، لكن ملتون صور الحادثة بطريقة جميلة. ليست الحادثة جميلة في الواقع، لكنها جميلة في الفن.

في "الفردوس المفقود" قدم لنا ملتون إبليس في صورة تخالف المعهود الديني: فهو يقاتل ضد الخضوع، يقاتل بكل قوة، وهو يعلم أنه مهزوم. الشيطان في الفردوس المفقود، شخص بشري بليغ يقدم بلاغته لتصوير تمرده، حتى إن الناس ليوشكون أن يشعروا بالتعاطف معه.

لم يستق ملتون هذا من التوراة (مع أنه شديد التدين، من فرقة بروتستانتية يطلقون عليها اسم "The Puritans" أي الطهرانيين) بل استعار الحادثة منها، وأعاد إنتاجها متأثراً بأسخولوس في تراجيديات "بروميثيوس" الثلاث، التي يقدم فيها أسخولوس صورة عن كفاح الإرادة البشرية ضد ما هو أقوى منها.

والراجح أن ملتون كان كثيراً ما يذكر ﭘروميثيوس، وهو يؤلف الخطب البليغة التي يُنطق بها الشيطان.

ها نحن الآن نتأمل وجوه التشابه بين بروميثيوس وإبليس، وبين إبليس والأبطال التراجيديين، وبين الأبطال التراجيديين وأشخاص نراهم بين أظهرنا في الحياة. ولكننا مع ذلك نرى كيف تتم هزيمة كل من يتحدى الإلٰه.

وهذه رسالة أخلاقية، لم يكن لها أن تصل في قصيدة، لولا جمال التصوير فيها.

هذا هو ما يصنع المتعة يا أصدقائي.

إذن فما يعجبنا في الفن هو صناعة الفنان، كيف فعل الناس هذا بكل هذه البراعة، كيف رأى الفنان ما لم نكن نراه نحن، وهو مبذول أمام أعيننا في الحياة؟

لقد خلد الفن لحظة الزمن، فأوقف العجلة الدائرة، وسلط الضوء على جزء منها، فجعله خالداً، بعد أن كان يمر ويموت دون أن نلاحظه جيداً.

مرة أخرى أقول:

إنه الشكل أيها السادة، شكل المحتوى.