في علوم اللغة

 

قرأت قبل فترة بعيدة في كتاب ما، بأن أحد علماء اللغة جادل الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في بعض مسائل التفسير واللغة، فكان بين الفينة والأخرى يعترض على شروحات شيخ الإسلام، قائلاً:

ـ هذا يخالف كلام سيبويه.

ولما كان شيخ الإسلام حديد الطبع، فقد بصق في وجهه، وقال له إنه حمار كما سيبويه، وإن سيبويه هذا خالف القرآن في أكثر من سبعين موضعاً.

فما معنى هذا؟

لقد وضع سيبويه ـ رحمه الله ـ قواعد النحو في كتابه المسمى بالكتاب. فكيف فعل ذلك؟ وما سبب ذلك؟

لقد خشي العرب على لغتهم من الضياع، بعد ان فتحوا بلاد الله الواسعة، واختلطوا بالأقوام غير العربية، وتزوجوا منهم، فأنجبوا أبناء يتكلمون لغات أمهاتهم. وحتى حين يتعلمون لغة الأب، تراهم يخطئون ولا يتكلمون بـ«نحو» ما كان يتكلم الآباء.

ولقد كان هذا جرس إنذار: إذ علم العرب أن عليهم، منذ الآن، أن يضعوا علماً يعلّمون به أبناءهم كيف يتكلمون على «النحو» الذي تكلم به العربي في الجاهلية، وبـ«نحو» ما نزل القرآن، دون أن يقعوا في الخطأ.

لهذا بدأوا في كتابة «علم القواعد»، الذي هو «علم الكلام بنحو ما تكلم به العرب الجاهليون».

ولكي يستنبط سيبويه وأمثاله من العلماء قواعد العلم الجديد، كان عليهم أن يكون لديهم مادة عربية صحيحة هائلة، يستنبطون منها ويبنون على منوالها. ولقد وُجدت هذه المادة بالفعل: القرآن الكريم، وأشعار الجاهليين، وبقايا الكلام والحكم العربية المنقولة شفاهياً.

القرآن كله لغة عالية المستوى. وقد نزل بلغة الجاهليين، فلغتهم صحيحة، شرط ألا يكونوا من سكان الأطراف، الذين اختلطوا بالفرس أو الروم أو الأحباش، فالتوت ألسنتهم.

إذن فكل ما نقلوه من كلام العرب، يجب أن يكون من وسط الجزيرة، من الأمكنة المعزولة عن الاختلاط والتأثر. وكل ما نقلوه فيما بعد في العصر الإسلامي يجب ألا يتعدى العام 150 هـ لأن الاختلاط ازداد فيما بعد، بحيث أفسد الألسن.  

إذن فلقد كان لا بد من وضع تاريخ، يشبه شارة المرور. وهذا هو ما سيسمونه بعصر الاحتجاج.

لقد قام سيبويه باستنباط القواعد من القرآن، ومن كل هذا الركام من الكلام المنقول، ثم وضع القواعد وفق ما نقل من الكلام: بمعنى أنه اخترع أسماء المفردات، فسمى هذا فاعلاً، وسمى هذا فعلاً، وسمى هذا اسما، وما لم يندرج تحت الاسم والفعل سماه حرفاً.

وتعلم سيبويه وأضرابه من كل هذا الكلام، أن ثمة كلاماً يُقال بطريقة سماها مرفوعة؛ وكلاماً يُقال بطريقة مختلفة سماها منصوبة؛ وآخر بطريقة أخرى سماها مجرورة. وهكذا.. واكتشف من ثم متى تكون الكلمة مجرورة أو منصوبة أو مرفوعة.

هذا كله يسمى «قواعد القياس»: أي أن على كلِّ من يريد أن يتكلم لغة سليمة أن يقيس كلامه وفق هذه القواعد.

هكذا نشأ علم النحو.

لكن كل علم القواعد الذي وضعه سيبويه، ومن جاؤوا بعده، أو عاصروه، لم يكن كاملاً تاماً مثل أي جهد بشري. فرغم أنه اكتشف القواعد، إلا أنه قد بقي كلام قليل ـ في القرآن والشعر والأمثال القديمة ـ لا يتوافق مع هذه القواعد. فماذا نسميه؟ ثم هل يجوز أن نحكم على الأصل وفق قواعد الفرع؟

إن القواعد تم اكتشافها من لغة العرب الصحيحة. وإذا نقلنا من بعد كلاماً لم يتفق وهذه القواعد، فهذا صحيح ولكن يجب اعتباره نادراً. لهذا سنسميه «السماعي»: أي الصحيح الذي لا نعرف له قاعدة.

وسأضرب لذلك الأمثلة.

المثال الأول:

ورد في القرآن على لسان صواحب يوسف قوله تعالى: ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً﴾ (31). والقواعد تقول بأن كلمة ﴿بشراً﴾ هذه وردت على غير القواعد:

لقد كانت قواعد سيبويه تقول بأنها مرفوعة، وحقها ـ لو لم تكن من كلام الله ـ أن تُرفع. فكيف جاءت هنا منصوبة؟ هل أخطأ القرآن؟ حاشا وكلا. فعلى منواله أنشأنا القواعد. فما الحل؟

ثمة ها هنا مذهبان:

1: مذهب يقول إنها سماعي. أي لا تقوم القاعدة وفقها. فهي صحيحة ولكن ممنوع أن نتكلم بنفس طريقتها.

2: ومذهب يخترع لذلك المخترعات، فيزعم أن ﴿بشراً﴾ خبر «ما» العاملة عمل «ليس»، وهي التي يرغبون في تسميتها بـ«ما الحجازية».

وأنا لا أحب هذا الرأي الأخير، نظراً لأن القرآن كله من لغة قريش الحجازية. فقد علمنا يقيناً أنه حين أمر أمير المؤمنين عُثْمَانُ ـ رضي الله عنه ـ كلاً من زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ، وسَعِيدَ بنَ العَاصِ، وعَبْدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيْرِ، وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ، أنْ يَنْسَخُوا الآيات في المَصَاحِفِ، قالَ لهمْ: "إذَا اخْتَلَفْتُمْ أنتُمْ وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ في عَرَبِيَّةٍ مِن عَرَبِيَّةِ القُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بلِسَانِ قُرَيْشٍ، فإنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ بلِسَانِهِمْ. فَفَعَلُوا". (صحيح البخاري).

فإعراب النحويين اليوم الآية من سورة يوسف باعتبار «ما الحجازية» إنما هو تأويل بعيد، يحمل في طياته اعتقاداً بائساً يقول بأن لغة القرآن ـ سوى هذه ـ تميمية، فلم تأت إلا هذه مختلفة.

فيا عباد الله، لم تقولوا إذ لم تعلموا: «جاءت سماعية لا نعلم لها قاعدة». أرأيتم لم أحب جملة: «لا أعلم»؟ فهي نصف العلم.

لقد قلنا مراراً بأن في القرآن ما لا نستطيع ضبطه وفق قياسات علم النحو الذي اخترعناه. كما قلنا: إنه من سوء الظن، وقلة العلم، أن نقيس القديم على الجديد، فنحكم القرآن وفق قواعد سيبويه.

المثال الثاني:

يحكي القرآن في سورة طه مقولة سحرة فرعون:

 

﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ (63).

ولما كان معلوماً النحويين أن ﴿إِنْ﴾ هنا هي المخففة من الثقيلة، التي ترفع اسمها وتنصب خبرها، فقد تعجبوا من مجيء خبرها ـ المقرون باللام المزحلقة ـ مرفوعاً بالألف هكذا ﴿لساحران﴾ وكان حقه في قياسهم أن يأتي منصوباً بالياء: «لَساحرين»!

فماذا فعلوا؟

لقد اختلفوا كثيراً في التأويل. وهذا حق. لكن ما ليس حقاً بالفعل هو اختراع بعضهم للغة عربية قديمة بائدة، لقبيلة سماها «بلحرث بن كعب»، يجعلون المثنى دائماً بالألف المقصورة، فلا يعربونه إعراب قريش.

ولو قالوا أجمل من ذلك لكان خيراً. لو قالوا هذا أكبر من علمنا، ولم تستطع قواعدنا المتأخرة إحصاءه، لكانوا أجمل. ولقد كان بإمكانهم أن يجعلوا إن هي النافية التي تدخل على الجملة الإسمية فلا تغير من إعرابها شيئاً، لولا أن لم يعجبهم دخول اللام على الخبر.

ورحم الله الزمخشري الذي علق على كل هذه التناقضات ساخراً بقوله "وكل حزب بما لديهم فرحون". (الكشاف. ج3. ص72). وهكذا بدا لنا جار الله ساخراً من كل هذا الحجاج، الذي يأبى الاعتراف باستحالة الإحاطة بكل ما في القرآن من دقائق.

المثال الثالث:

قد أغرم البعض من اللغويين بالزعم بوجود لغة عربية رديئة هي لغة «أكلوني البراغيث». وواضح من هذا المثال أن اللغة القرشية تقول: «أكلتني البراغيث». وقد سمى مولاي النووي ـ وهو عليم باللغات ـ في بعض كلامه هذه اللغة بـ«اللُّغّيَّة» احتقاراً. لكن حتى لو قبلنا وجود هذه اللغة الرديئة في قبيلة عربية بائدة، فإن علينا أن نُنَزِّهَ كلام الله عنها، باعتبار القرآن نزل بأفصح اللغات، ولم يأت ليحفظ لنا شاهداً من لغة ضعيفة يخشى اندثارها. أما إن وُجدت في حديث نبوي فعلينا أن ننسبها إلى راو من الرواة المولّدين، لا إلى كلام أفصح من نطق بالضاد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوتي جوامع الكلم.

حسناً إذن. فقد جاء قوله تعالى في سورة الأنبياء" ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ (3)؛ فقال القائلون بأن كلمة ﴿أسرّوا﴾ جاءت بلغة «أكلوني البراغيث». وبذا فقد جعلوا كلام الله رَثّاً! تعالى الله عما يقول الرقعاء.

وقد كان جميلاً لو أعربوا كلمة ﴿أسرّوا﴾ باعتبار «أسرَّ» الفعل و«الواو» الفاعل، فتكون كلمة «النجوى» مفعولاً به؛ ثم اعتبروا الاسم الموصول «الذين» بدلاً من الواو، بمعنى أنها بيان للذين أسروا النجوى وفضح لهويتهم.

لكنهم لو فعلوا، لبدوا غير مهتمين بإثبات لغة «أكلوني البراغيث» في القرآن؛ الأمر الذي لا يروق لرقعاء ينقلون كل تافه من القول دون تمحيص.

والآن نتذكر ـ مرة أخرى ـ ما سبق أن قلناه، من أن ما ننقله من كلام العرب الجاهليين هو حجة على صحة اللغة، ولو خالف ما نعرفه من القواعد، لأن القواعد إنما نشأت لتنحو بالكلام المحدث منحى كلامهم. وقد سمينا ـ في حينه ـ هذا النوع من النقل بـ«السماعي» أي: الصحيح الذي لا نعرف له قاعدة، أو: الصحيح الذي عجزنا عن اكتشاف قاعدته.

المثال الرابع:

ورد لدينا المثل القديم القائل: «مُكرَهٌ أخاك لا بطل» بهذه الصيغة. وها نحن نلاحظ أن كلمة «أخاك» في المثل مخالفة للقاعدة: فهي في إعرابنا «نائب فاعل مرفوع» لاسم المفعول «مُكرَهٌ» الذي جاء بصيغة البناء للمجهول. فكان حق نائب الفاعل هذا أن يُرفع بالواو، لأنه من الأسماء الخمسة. بمعنى أن القياس الصحيح هو أن نقول: «مُكرَهٌ أخوك».

فإن قال قائل اليوم «مُكرَهٌ أخوك لا بطل»، لحكمنا بأنه خاطئ. لماذا؟ لأنه خالف السماعي.

فماذا يتأتى من ذلك؟ يتأتى من ذلك أن السماعي مقدم على القياس.

فلو قلنا «مُكرَهٌ أباك على رعايتك». لكنا خاطئين، لأننا قسنا على السماعي. والسماعي لا يقاس عليه، لذا سماه بعضهم شاذاً. بمعنى أن الصيغة: «مُكرَهٌ أخاك لا بطل» هي الصحيحة، فيما الصيغة: «مُكرَهٌ أباك على رعايتك» هي خاطئة تماماً.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا.