• فنون
  • 2591 قراءة
  • 03:38 - 05 مايو, 2018

شيء من الفن شيء من الجمال


الجمال والجلال


أولاً: الجمال:


الشعور الجمالي، يقوم بتجميع قدرات التأمل ويركزها، بحيث تنصب ـ مثل عدسة الزوووم ـ على بؤرة الجميل. إن أساس المتعة الجمالية، يكمن في تجربة لحظات الانسجام هذه.

في الإدراك الجمالي نحن نوحد عناصر الممتع، ننسجم مع العالم، فنرقص، نهتز، ننتشي، نغيب في عالم من الحس.

في إدراك الجميل نحن نتوحد مع العالم، ولا نسمو عليه.

دعونا نتأمل في صورة امرأة جميلة تتسول وفي عينيها نظرة انكسار! إننا نعطف عليها، تتحرك فينا دوافع داخلية تأمرنا بالتوحد معها في ألمها. إننا نشعر بالمتعة حين نشاركها ألمها الذي كان خاصاً بها فصار إنسانياً عاماً.

ولكي يتبين المقصود أكثر، دعونا نتأمل صورة امرأة حزينة أخرى: صورة مريم العذراء. إنها صورة امرأة تتألم هي الأخرى، لكننا هنا نتأمل الألم ونتمتع، ولا نستطيع أن نتوحد معها، إلا مجازياً: أي لا يتحرك فينا الحس، بل الروح، إذ نعلم أننا نتأمل مثالاً أسمى منا، موضوعُهُ الجليل، لا الجميل.

إن إدراكنا لصورة مريم العذراء مختلف عن إدراكنا لامرأة عادية تتألم، أو لامرأة مشتهاة تستعرض جسدها، ذلك أن ما يمتع هنا هو الحس، لا الروح. وكل من يقول بأن الروح يتمتع هنا، فإنما يقصد معنى مجازياً فحسب.

دعونا مثلاُ نتأمل تمثال "فينوس" أو "ديمتريا"! إننا نشعر بأننا نريد أن نتوحد مع هذا الجسد، فهو لا يسمو فوقنا، بدليل أننا صورنا جسدي الإلهتين العاريتين، فتمتع فينا الحس وتراقص.. إننا هنا نشعر بلذة تحرك الجسم والأحاسيس.

وكذلك في الغناء، يحدث معنا شيء مشابه، حين نستمع إلى صوت الست، تغني من ألحان الأستاذ محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي نشعر بالجمال.

استمعوا إلى "أنت عمري" ـ مثلاً ـ أو "سيرة الحب" تشعروا أنكم تتمتعون وتتهيأون لاقتناص لذة الحياة.

إن أرواحكم تلتذ، وأطرافكم تهتز.

ثانياً: الجلال:


على عكس لذة الجمال الهادئة التي تولد الانسجام مع العالم، تنشأ فينا لذة الجلال باردةً حادة طاغية، تسمو بنا فوق العالم. ذلك لأننا في إدراك الجليل، نخوض تجربة جمالية فيها مهابة، فيها نوع من القداسة، إذ تمتزج فينا متعة الحضور بخوف الفقد. لهذا فنحن في تأمل الجلال نتأمل ما يرفض الوحدة مع العالم، ويسمو فوقه.

في لذة الجلال نحن نطرد، فنسمو: نطرد ما هو مثلنا، لنتأمل ما هو أسمى منا، فنحلق، نتشامخ، نعلو، نشعر بالعظمة. 

إننا في تأمل الجليل نشعر أننا محدودون، وصغار، ولا نستطيع تغيير شيء مما حولنا. لكننا نشعر كذلك بأن محدوديتنا وصغارنا جميلان، إذ ندرك بأن ذلك هو ما يمنحنا الشعور بالحاجة، وتلبية الجليل للحاجة. من هنا تنشأ الطمأنينة، فلا يعود يصيبنا الفزع من مصيرنا الذي نراه الآن محتوماً. إننا هنا نحقق شعور طفل يحنو عليه أبواه، فهو يحبهما ويخشاهما عند اللزوم.

إن نتيجة تأمل الجليل هي التحليق والطمأنينة. لأن المهابة خوف سامٍ وهادئ. 

حين نتأمل "معبد الكابيتول"، أو "ضريح تاج محل" يتمتع فينا ما هو غامض، ما هو غير محسوس، ما هو مثار الهيبة والخشوع، ينشأ في أرواحنا سكونٌ يجعلنا نسمع همسات عالم غير محسوس.. نحن هنا نشعر بلذة في المنطقة العليا من الكينونة، لا علاقة لها بالجسد، نشعر بسمو الروح، وهمود الجسد.

يحدث لدينا شيء مشابه حين نستمع إلى الست تغني من ألحان الأستاذ رياض السنباطي. نشعر بالجلال، لأننا لا نتصور أحداً قادراً على أن يأتي بشيء مقارب لهذا.

لقد قلت بأننا نشعر بالجلال حين نستمع إلى "الأطلال" أتدرون لم؟

لأننا لا نتصور أحداً قادراً على أن يأتي بشيء مقارب لهذا.

إننا حين نستمع إلى الأطلال، نكون كالأطفال حين يعدون النجوم، ويدركون ألا أحد يستطيع أن يعرف عددها، ولا أن يصير مثلها، ولا أن يقارب خلقها...

وبالمقارنة نعلم أننا تصورنا أن بإمكان أحد آخر، غير الست والسنباطي، أن يقدم شيئاً كهذا، أو قريباً من هذا، لتحول شعورنا من الجلال إلى الجمال.

لقد غمر هذا الشعور عبد الوهاب إذ علق على فعل السنباطي في الأطلال قائلاً:

ـ السنباطي لبسنا الطٌرَح (يقصد الموسيقيين).

استمعوا إلى "الأطلال" ـ مثلاً ـ أو "ليه يا بنفسج" لصالح عبد الحي، تشعروا بأنكم تتمتعون وتوشكون على البكاء.

إن أرواحكم تحلق نحو السماء.