• سياسة
  • 1621 قراءة
  • 21:45 - 15 مايو, 2018

العلمانية

تمهيد:

كلمة العلمانية (Secularism) مشتقة من كلمة لاتينية هي (Saeculum) وتعني العالم أو الدنيا، وتوضع في مقابل الكنيسة. ويقصدون بها: حكم الدنيا الذي تقضي به الدولة، مقابل حكم الآخرة الذي يقضي به رجل الدين، ويحاول فرضه على الدنيا.

وقد بدأ استخدام كلمة العلمانية في منتصف القرن السابع عشر، في أوروبا، مع انتهاء الحروب الدينية، التي حررتها من سلطة الكنيسة، لتظهر الدولة القومية.

أي أن كلمة علمانية ظهرت نقيضاً لدولة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي ـ على حد تعبير فريدريك الأكبر ـ لم تعد إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة.

لقد تعلمنت ممتلكات الكنيسة، التي كانت قد بلغت في فرنسا ـ مثلاً ـ حوالي ربع الثروة القومية، كما يقول ويل وايريل ديورانت. أي أن الدولة صارت الآن هي الممتلكة لما كانت الكنيسة قد جمعته من الناس باستخدام (الحيل السماوية).

لقد كانت الكنيسة قبل ذلك دولة داخل الدولة. فصارت الآن تحكم في الآخرة فقط، وتقرر ما هو صالح لحياة الفرد الأخروية، دون أن تتدخل في حكم (العالم) الدنيوي.

بمعنى آخر كانوا يقولون في السابق إن الكنيسة تملك السلطتين: الزمنية والأخروية. فانتزعت الدولةُ القومية الحكمَ الزمني من الكنيسة. وصار هذا هو المعنى التاريخي لكلمة علمانية. أما الآن فيعرف الفلاسفة العلمانية بأنها "إصلاح الواقع بالطرق الدنيوية، دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".

إن السلطة هي السلطة. ولا شيء اسمه سلطة إلا واحدة من اثنتين:

1ـ السلطة المطلقة، ملكية كانت أم جمهورية.

2ـ السلطة المحدودة بمراقبة الشعب.

ولا شيء في الواقع اسمه حكومة إسلامية أو حكومة علمانية. فكل سلطة تحمل مسمى أيديولوجياً (إسلامياً أو شيوعياً) هي من النوع الأول. وكل سلطة علمانية هي من النوع الثاني. دع عنك اختلاط الأنساب المتعمد هذا.

الحكم الشيوعي سلطة دينية تتخفى وراء نصوص، تشبه ـ في مضمونها ـ ذات النصوص الدينية التي يتخفى وراءها (الحكم الإسلامي).

تعريف:

لقد أُغرم المتدينون الجدد ـ عمداً ـ بوصف العلمانية بشتى الصفات، مع أنهم الآن يمارسونها جهاراً نهاراً. وإلا فكم حكماً مما يصفونها بأحكام الشريعة، طبقوه: إن في الحدود، أو في رد الأمانات إلى أهلها، أو في منع الاحتكار وتجارة الحاكم، أو في الامتناع عن المكس الذي يقولون إنه أعظم من الزنا، أو حتى في فرض ما يسمونه بالزي الإسلامي!

إنهم ـ أيها الأصدقاء ـ يمارسون العلمانية ويلعنونها. وقد وقر في قلوبهم أن مجرد تزيين الوجوه باللحى والمساويك وطاعة الأمير، يمنح حكمهم صفة اللاعلمانية.

إذن دعونا نرَ ما هي العلمانية.

العلمانية ـ بحد ذاتها ـ إنما تعني لديّ:

1ـ حرية العبادة

2ـ وحرية ترك العبادة

3ـ وحرية الكفر أو الإيمان.

ذلك لأن الحاكم فيها ـ أي القانون ـ ليس مكلفاً بالتفتيش عن عقائد المواطنين.

والعلمانية ـ بهذا المعنى ليست نبتاً غريباً في التجربة التاريخية العربية.

فمعاوية هو أول حاكم علماني عربي، لأنه أول من سنّ تَحَكّم الدنيا في الدنيا، ولم يأبه باعتراضات رجال الدين، على ما يسنّه من قوانين، لم تكن على مثال القوانين السابقة.

إنما ابتدأت الحكومةُ الدينية، مع العباسيين، الذين اقتبسوا من الرومان الشرقيين مفهوم الحاكم الإلٰهي (ظل الله في الأرض)، فطبقوه وانصاع لهم رجال الدين، ثم ما لبث أن تحول بسبب نصوصهم البشرية إلى دين.

في الدولة الأموية، لم يكن يُتهم بالكفر آنذاك من ثار على الحكام، بل هي حرب بين فريقين على السلطة. (من قال لنا برأسه هكذا، قلنا له بسيوفنا هكذا).

إذن فتكفير كل من خرج على الحاكم، إنما ابتدأ مع خروج أهل البيت العلويين، على الدولة التي دعوا إليها، فقتلتهم.

والحق أن العلويين هم أول من دعا إلى الدولة الدينية، وتحالفوا مع أبناء عمومتهم العباسيين على ذلك، وسموا حزبهم (الدعوة)، واستعانوا بمكر السياسة على نقاء الدين، إذ أثاروا النعرة الشعوبية، واستعانوا بالفرس، فأيقظوا فيهم قومية كان الدين قد هدمها، ومنحوهم سيوفاً كان الفاروق قد ثلمها.

فلما انتصروا سوياً على الأمويين، وأخرجوا عظامهم من القبور، انقلبت (الدعوة) على العلويين، فأنكرت نصيبهم في الملك، فانقضوا عليها، فانقضت عليهم، بتنكيل لم يسمع التاريخ العربي بمثل هوله، ولا حتى زمن يزيد والحسين عليه السلام.

الدولة الدينية:

إذن فالدمج بين الدين والدولة، في الواقع العربي، لم يحدث في عهد الخلفاء الراشدين، ولا في الدولة الأموية؛ بل حدث مؤخراً في العصر العباسي، حيث صرنا نسمع بأسماء حكام من أمثال: المرتضى لله، القائم بأمر الله، المنصور بالله، المهدي، الهادي، الرشيد، المستهدي... إلخ هذا الدجل السياسي القتال.

ورغم هذه الأسماء الموحية بالكذب، فقد مارس كل واحد منهم أبشع الهوايات على حساب الشعب، فقتلوا ونهبوا المال العام، بل واستعانوا بالفقهاء ليحللوا لهم الزنا وراء أسماء أخرى.

فمن ذلك ما تنقله كتب التاريخ عن قتل الخليفة العباسي الأول ـ الملقب بالسفاح ـ لكل بني أمية بعد أن منحهم الأمان.

ومن ذلك قتل المهدي لكل معارضيه بتهمة الزندقة.

ومن ذلك قتل المنصور لآل بيته.

ومن ذلك قتل المأمون لأخيه الأمين.

ومن ذلك قتل الرشيد الذريع لآل البيت، واستعانته بأبي يوسف ـ تلميذ أبي حنيفة الذي وافق على العمل لديه، مخالفاً لسيرة سيده ومعلمه ـ ليحلل له نكاح جارية كان قد نكحها أبوه من قبل.

ومن ذلك العددُ الهائل من القصور التي بناها المتوكل لجواريه عموماً، ولـ"قبيحة" على وجه الخصوص، حتى أنفق مال الخراج كله ذات سنة وأفرغ الخزينة العامة. كل ذلك ورجال الدين صامتون لا يعترضون. كل ذلك يعرفه المتدينون الجدد، ويرغبون في إعادة إنشائه، لنكون الجارية وليكونوا هارون الرشيد. ولعلنا لم ننس بعد هتاف أبي بكر البغدادي قريباً، إثر انتصار سريع:

ـ قادمون يا بغداد الرشيد.

إنهم يحلمون بالرشيد والجواري، لا بعمر بن الخطاب والمرقعة.

قلنا إن دولة الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، لم تكن دولة دينية. ولم يكن مفهوم الدولة الدينية أو المَلَكِيّة قد تبلور في بصائر حكام المدينة. إنما رأوا أنفسهم خلفاء، يقلدون من كان لهم قدوة وقائداً ونبياً. ولم يكن لديهم مثال سابق عن تنظيم الدولة أو قوانينها الحديثة، حتى فتحوا بلاد الفرس فتعلموا منهم.

ولا أراني أعتبر ما تعلمه عمر من بلاد الفرس ديناً أبداً، ولا أراه اعتبره الفاروق ديناً أبداً. فلقد أنشأ الوزارات (الدواوين) وكتب السجلات بأسماء المواطنين... إلخ.

لقد كان اجتهادا عمريا دنيوياً بحتاً. وتذكروا معي كيف منع عمر البلاد المفتوحة من التقسيم على المقاتلين، مخالفاً بذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر.

لقد كان عمر يرى أن الدنيا هي من يمُلي روح الدولة وتشريعاتها الكبرى.

ومالنا نذهب بعيداً، دون أن نعيد تأمل ما فعله أبو بكر الخليفة الأول رضي الله عنه وأرضاه، إذ اعتبر الخروج عليه مساساً بالدولة الدنيوية، لا كفراً بالحكم الإلٰهي؟

فلنتأمل ما فعل أبو بكر مع من سيسمون بالمرتدين:

حين رفضت قبائل الجزيرة العربية، قاطبة، دفع الزكاة لأبي بكر، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انقسم الثائرون عليه إلى قسمين:

1ـ قسم متطرف ارتد عن الدين، وامتنع عن إقامة شعائره، فكفر بما أُنزل على محمد، وعدا على عماله لديه (المحافظين بلغة العصر) فقتلهم أبشع القتلات. 

2ـ وقسم واصل الاعتراف بالإسلام، وواصل إقامة شعائره، ولم يقتل أحداً، لكنه أصر على الامتناع عن دفع الزكاة لدولة المدينة.

وفي هذا يقول الشيخ العلامة علي عبد الرازق، في كتابه الشهير: (الإسلام وأصول الحكم):

"ومهما يكن الأمر، فلا شك أن أبا بكر قد بدأ عمله، في الدولة الجديدة، بحرب أولئك المرتدين. وهنا نشأ لقب المرتدين، نشأ لقباً حقيقياً لمرتدين حقيقيين، ثم بقي لقباً لكل من حاربهم أبو بكر من العرب بعد ذلك، سواء كانوا خصوماً دينيين ومرتدين حقيقة، أم كانوا خصوماً سياسيين غير مرتدين".

في حادثة الردة، كان أبو بكر لا يرى في امتناع المرتدين عن دفع الزكاة للدولة المركزية، إلا تمرداً مسلحاً على السلطة الشرعية. ولقد كان فهم أبي بكر في تلك اللحظة حقاً. ولقد تجلت عبقرية الصديق كرجل دولة هنا، إذ كان وحده ـ من دون من حوله من كبار الصحابة ـ هو الذي أدرك خطورة الأمر على بقاء الدولة. فقال قولته الشهيرة: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه".

وكان لا بد من ذلك حقاً وصدقاً وعدلاً. إذ لولا هذا الموقف الحازم من أبي بكر، لانهارت الدولة إلى الأبد.

وإذ اعتبر الصدّيق، رضي الله عنه وأرضاه، الفريقين الممتنعين عن أداء حق الدولة للدولة ـ كفاراً ومسلمين ـ أعداء للدولة، متمردين على قوانينها بالقوة؛ فقد عقد اللواء لخالد بن الوليد، وأمره باستعادة النظام بالقوة، دون أن يقول له: "اقتل الكافرين"؛ بل أمره بأن يحكم فيهم بالقصاص، ولم يقتلهم بما سوف يُقال له فيما بعد (حد الردة).

والقصاص ليس حكم ردة سماوية، بل هو عقاب على جناية أرضية.

خلاصة:

العلمانية بحد ذاتها ليست كفراً ولا إسلاماً، إنها الدولة الحديثة.

وحكم رجال الدين ليس إسلاماً ولا كفراً، وإنما هو الدولة الصحراوية البدائية، المعلق صلاحها بصلاح رجل فرد هو الحاكم، والمهددة بالسقوط في وحل الاستبداد بتحكم رجل فرد ظالم هو الحاكم.

لقد فصل معاوية الدين عن الدولة ـ بمعنى أنه امتنع عن تطبيق ما يقول رجال الدين في عصره إنه حكم الله، كلما رأوا اختلافاً في اتباع النموذج القديم ـ ولم يتهمه الفقهاء بالكفر، لا في عصره، ولا في العصور اللاحقة إلى الآن.

ودعونا نتذكر أن لو قسم معاوية المغانم على المقاتلين ـ كما كان عليه الأمر في زمن رسول الله ـ ولو لم يستصفِ معاويةُ عيون الذهب والفضة منها لبيت المال، لما أمكنه أن ينشئ جيشاً حديثاً يفتح به بلاد الدنيا، ويذل به جبابرة الأرض في زمنه.

إذن فقد تقرر أن الحكومة في أي بلد هي إما علمانية أو دينية.

فمن تحكم فيها رجال الدين، فهي حكومة دينية. ومن لم يتحكم فيها رجال الدين فهي حكومة علمانية.

العلمانية والنظام العربي:

وعلى ذلك ينشأ السؤال: هل الحكومات العربية علمانية أم دينية؟

والحق أن الحكومات، في الأقطار العربية، نوع هجين بين الدينية والعلمانية، بحيث لا تستطيع وصف حكومة منها بأنها علمانية، لأن الدستور ينص على أن الإسلام فيها هو مصدر التشريع، مع أن رجال الدين ليسوا المتحكمين.

1ـ إن الحكومات والقوانين في الأقطار العربية ـ غالباً ـ تدافع عن الدين وتحميه، بما يناقض العلمانية.

2ـ وتدافع عن الحريات الفردية في وجه كثير مما لا يقبله الدين، بما يناقض الدينية.

يمكن القول بأن الدولة العربية علمانية ترى الدين أداة حفظ لهوية المجتمع.

وأخيراً دعونا نبحث عن الفرق بين الحكومة العربية الحالية، والحكومة الدينية التي يزعم المتدينون الجدد أنهم يرغبون فيها:

إنهم يختلفون مع الدولة الحالية فقط في مناداتهم بتطبيق الحدود، ويسمون هذا حكم الإسلام.

أما تطبيق الحدود، فليس ثمة ما يمكن تطبيقه منها الآن. ولنناقش ذلك الآن علناً:

الحدود هي: قطع يد السارق، وجلد الزاني أو رجمه، والقصاص في الدماء، وجلد شارب الخمر، وجلد قاذف المحصنات.

ودليل الحد هو شاهدا عدل في كل واحد منها، باستثناء الزنا، فأربعة شهود رأوا الحادثة كل بأم عينه، دون أدنى شبهة شك.

إذن فلا بد من الشهود العدول. فهل هم موجودون؟

إنهم الآن يقبلون كل شهادة، بطريقة تسقط شرط العدالة. حتى صار بإمكانك أن تشتري شهادة الشاهد بالمال، أو بالقرض، وذلك بأن تشهد معه فيشهد معك، كما يفعل أناس معروفون بسيماهم اليوم.

فهل يمكن رجم شخص أو جلده أو قتله بشهادة شهود يمكن شراؤهم؟

كلا، بل لا بد من سجل عدل يحفظ أسماء كل المواطنين الصادقين، المقبولي الشهادة. وهم وحدهم من تُقبل شهادتهم، أمام القاضي الذي يجب أن يكون شبعان بما يغنيه عن الرشوة، وحكيم ليس من راسبي الثانوية، ويخاف الله أكثر مما يخاف الناس، ويرجع في ذلك إلى قانون يحفظ استقلالية القضاء عن تأثير السياسيين.

فهل صار لدينا سجل عدل يحفظ أسماء شهود العدل، وأسماء الفساق الذين لا تُقبل شهادتهم؟

وأخيراً،

لا يمكن اختصار حكم الله في تطبيق الحدود، بل إن حكم الله أشمل وأعم وأكثر بهاءً

فمن حكم الله ألا يسرق الحاكم المال العام

ومن حكم الله ألا يسجن الحاكم الناس على الظن

ومن حكم الله ألا يكذب الحاكم شعبه

ومن حكم الله أن يقسم الحاكم الأموال على شعبه بالتساوي

ومن حكم الله أن يمتنع الحاكم عن جباية الضرائب (المكوس).

ومن حكم الله أن يوفر الحاكم للناس العمل والسكن والزواج.

ومن حكم الله ألا يقتني الحاكم أموالا لا يستطيع كشف مصدرها.

إلخ إلخ إلخ

فهل ترون أن المتدينين الجدد، في العالم العربي قاطبة، يطبقون حكم الله حقاً، أم يرغبون في استلاب سلطة، لا يطبقون فيها "حكم الله"؟

انتهى