نفحات رمضانية


نشرت هذه النفحات على صفحاتي في الفيس بوك، في شهر رمضان 1439 هـ الموافق يونيو 2108

1: في أصول الاستدلال:


يقول تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة/185).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" متفق عليه

فشهود الشهر في الآية يحتمل المعاني الثلاثة الآتية:

1ـ المعنى الحقيقي، برؤية الهلال في الأول من رمضان.

2ـ المعنى المجازي، بثبوت دخول شهر رمضان، بظهور علامته الهلال.

3ـ المعنى المجازي، بالحلول في البلد، وعدم السفر.

فجاء الحديث الصحيح "صوموا لرؤيته" لينفي المعنى الأول: حيث يتوجب الصوم على كل من شهد شهر رمضان في البلد، دون اشتراط أن يراه بنفسه.

إذن فقد تبقى لدينا احتمالان في معنى الآية، هما الثاني والثالث: فإما كان المقصود دخول رمضان، وإما كان عدم السفر. فأيهما المطلوب؟

ها هنا يتصارع احتمالان أحدهما أكثر وضوحاً في الدلالة من الآخر. فيأتي الحديث "صوموا لرؤيته" ليرجح المعنى الأول: حلول الشهر. إذ لم يرد في الحديث ذكر للسفر، رغم أننا نعلم أنه يرفع وجوب الصوم (لرؤيته) من كلام قرآني آخر، وحديث نبوي آخر.

محصلة ذلك: أن معنى قوله تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ هو: على كل مسلم حي أن يصوم رمضان حين يبدأ الشهر.

فقد عبر التنزيل العزيز عن الشهر بالهلال مجازياً، حيث ذكر الهلال وأراد لازمه الشهر.

هكذا يكون الحكم العام: وجوب الصيام على كل مسلم.

لكن ثمة تخصيصاً لهذا الحكم. والتخصيص نوع من نسخ الجزء فلا يلحق بالكل: فقد ورد في مواضع أخرى من النصوص، استثناء المسافر والمريض والحائض والنفساء والمرضع، والشيخ الكبير... إلخ

2: نزول الملائكة في ليلة القدر:


﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾ (القدر/5).

نرى هنا في الآية إشارة إلى طلب النزول، بدليل الإذن بالنزول، ولا يكون الإذن إلا بعد المنع. إذن ففي ليلة القدر تطلب ملائكةٌ الإذن بأن ينزلوا إلى الأرض، احتفالاً بالليلة، واحتفاء ببعض أهل الأرض، من أهل هذه الليلة، المقدرين عند الله أنهم أهلها.

تتنزل في ليلة القدر إلى الأرض ملائكة، بالبركة والخير والدعاء. وينزل معهم أعظمهم جبريل (الروح).

يبدو أن قد سبق هذا الإذن طول دعاء!

ولقد نعلم أن ملائكة تنزل إلى الأرض في كل حين، فأدى بنا علمنا إلى أن استنتجنا، بأن من طلبوا النزول في هذه الليلة، إنما طلبوا هذه الليلة بالذات، ليشرفوا بها. قد لا يكون موعد نزولهم قد آن، فاشتاقوا أن يختصهم ربهم ببركة خاصة، لعدد منهم مخصوص، فينزلون ليزدادوا بهاء وبركة وقرباً من أحبابهم المؤمنين!

لطالما دعوا ربهم بالمغفرة لهم: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (غافر/7 ــ 9).

فهم الآن مشتاقون للقرب من أصحابهم بالغيب. إنهم يريدون الاقتراب من الأولياء المخصوصين. ملائكة مخصوصون يشتاقون لأولياء مخصوصين. والله يأذن ويرى ويحب. سبحان الله!

3: أولياء الله:


﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (يونس/62 ـ 64).

إن لله عباداً يخشونه حق خشيته. وكلما ازدادوا له خشية، ازداد لهم حباً. وكلما ازداد لهم حباً أدناهم إليه فقربهم. وكلما قربهم إليه، ازدادت خشيتهم منه، أن يكون قد مكر بهم بسوء ما عملوا. فأملى لهم. ذلك لأنهم عرفوا أنه سبحانه من يعلم خواتيمهم ولم يعلموها.

وعند هذا المقام قد يمنحهم الله بعض الإشارات (البشائر) التي لا يبوحون بها، فتهدأ قلوبهم لحظة، ريثما تعاود الخوف ـ ذلك لأنهم يخشون أن يكونوا فهموا الإشارات خطأ ـ فيزيدهم الله رفعة ودنواً، فترق قلوبهم وتشف، وتنهمر دمعتهم ولا تجف، ويشتاقون إلى جوار ربهم، فيزهدون في الحياة، ويقضون ما تبقى لهم في انتظار اللقاء.

لقد آمنوا وكانوا يتقون. فمنحهم الله الأمن من الإيمان، وجعل تقواهم منارة هدى يهتدي بها السائرون. كل هذا وهم أفراد من الناس، لا يعرفهم الناس، ولا يعرفون أنهم أولياء.

يمكن أن يكون هؤلاء هم الذين أشرنا إليهم في النفحة السابقة، الذين تشتاق إليهم الملائكة في الملأ الأعلى، ويستغفرون لهم هناك، ويطلبون الإذن بالنزول إليهم ليلة القدر.

ومع ذلك فهم لا يعلمون أنهم أولياء.

4: ليلة القدر:


﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾. وقد سبق أن قلنا إن الآثار المروية عن الصحابة هي في غالبها ضعيفة الإسناد. كما سبق أن نقلنا عن الشافعي رضي الله عنه أن ما يصح عن ابن عباس في التفسير قليل. وبيان ذلك أن الرواة عنهم لم يكونوا يتثبتون في نقلهم، بقوة ما تثبتوا في نقلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبذا فقد تبين أننا لا نرتضي ما نقله الناقلون عن ابن عباس رضي الله عنه في معنى الألف شهر، فنعرض عنه هنا.

لكن ما يروق لنا في معنى الألف شهر ـ التي ليلة القدر خير منها ـ هو أنها الدهر كله. وإنما ذكر التنزيل العزيز الألف شهر، ليقول إنها خير منها. وليس معنى ذلك أن الأكثر من ألف شهر تساويها، أو تزيد على فضلها، حاشا وكلا. إنما العدد هنا لبين الكثرة، لا للإحصاء؛ على عادة العرب عندما يرغبون في ذكر عدد أكبر من التصور فيقولون ألف.

إنها لغة العرب، الأميين الذين لا يحسنون العدد. لا جرم، فالقرآن يتنزل على الأنبياء بما يفقه أقوامهم ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ (إبراهيم/4).

إذن فالتنزيل العزيز يقول هنا: إن ليلة القدر خير من كل زمان يمكنكم تصوره. وتذكروا يا أصدقائي، أن أحدكم حين يرغب في تقريب مفهوم الكثرة للطفل، يقول له: هذا الشيء كبير، فيسأله: وكم هو كبير؟ فيرد قائلاً: كالبحر، أو كالسماء... إلخ.

وقد ورد في كتب التاريخ، ما يعزز ما ذهبنا إليه، إذ روت أن المسلمين في إحدى الغزوات، غنموا ابنة ملك من الملوك، فوقعت في سهم أعرابي. فجاؤوا يفتدونها بالمال، فرفض التنازل عنها. فقالوا له: اطلب من المال ما تريد. فلما أراد أن يعجزهم قال: أطلب ألفاً. فلما بذلوا له الألف وأخذوها، سخر منه أصحابه وقالوا له: هلا طلبت أكثر من ألف؟ فرد مستغرباً: يا قوم، والله ما علمت شيئاً أكثر من الألف. 

5: العلة والحكمة:


يقول علماء الأصول بأن الأحكام تدور مع عللها، وجوداً وعدماً. فيفهم (فقهاء الفيس بوك) من هذه القاعدة، أن الحكم ينعدم حين تتحقق العلة.

بمعنى أن بإمكان أحدهم أن يقول: لقد حرم الله الخمر لأنها تسكر. فأنا سأشرب منها مقداراً لا يسكر. إذن فليس حراماً أن أشرب الخمر، لأنني علمت حكمة تحريمه، فحققت الحكمة دون تحقيق المنع.

وأنا أقول بحول الله وتعليمه إن شاء الله:

1ـ العلة ليست هي الحكمة. وقول الأصوليين بأن العلة في تحريم الخمر هي الإسكار، لا يعني أنهم يقصدون أن الحكمة من تحريم الخمر هي الإسكار. وهم لم يُبتَلوا بعالم (الفقيه) فيه متوفر بين كل حجرين على قارعة الطريق.

2ـ فالعلة التي هي مناط الحكم، في القاعدة السابقة، هي (الوصف الظاهر المنضبط الذي يتوفر في الحكم، ويتعدى إلى غيره). والفرق بينها وبين الحكمة أن الحكمة لا يعلمها الناس إلا من خلال النص، أما العلة فيمكن معرفتها بالاجتهاد، عن طريق السبر والاختبار.

3ـ قد تبدو بعضُ الحكم المنصوص عليها ظاهرةً، كالتقوى في الصيام (كما في قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" البقرة/183) لكنها ليست العلة ـ فالعلة وصف ظاهر منضبط يتعدى إلى غيره ـ ولو تأملتم في مفهوم التقوى لما وجدتموه منضبطاً، وإن كان ظاهراً.

4ـ من هنا فالحكمة ليست هي مدار الحكم وجوداً وعدماً، بل العلة.

5ـ أخيراً يجب ملاحظة أن القاعدة السابقة هي في الأحكام، يعني في الأمور الدنيوية. أما العبادات فلا التفات فيها إلى العلل، بل طاعة معروفة، وتطبيق خانع. فالعبادة عبودية.

6: حول ما يُقال له "بيت العزة":


1ـ يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ (البقرة/185).

2ـ ويقول كذلك: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر﴾ (القدر/1).

3ـ ويقول كذلك: ﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ (الإسراء/106).

ولقد يكثر السائلون من القول: كيف نزل القرآن في ليلة القدر، وقد نصت الآيات على أنه نزل متفرقاً منجماً، بحسب الحوادث، على طول ثلاث وعشرين سنة، كما في آية الإسراء؟

ولقد يجيب المجيبون، بأن معنى ذلك هو ما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من أن القرآن نزل في ليلة القدر، من عند الله جملة واحدة، إلى "بيت العزة" بالسماء الدنيا. ثم بدأ جبريل ـ عليه السلام ـ يحمله إلى قلب رسول الله متفرقاً.

فما صحة هذا الأثر عن ابن عباس، وما قيمته العقدية؟

*التخريج: نقد الإسناد:


قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني والبزار باختصار. ورجال البزار رجال الصحيح. وفي إسناد الطبراني عمرو بن عبد الغفار وهو ضعيف".

وقال في موضع آخر: "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم. وهو ضعيف".

وقال الحاكم في المستدرك: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

وإنما يقصد الحاكم بهذا أنه عاتب على الشيخين (البخاري ومسلم) إذ لم يذكراه في الصحيحين. ولعمري إن تصحيح الحاكم لمما تعترضه الكثير من العثرات.

*نقد المتن:


وهكذا يتبين لنا ان الأثر عن ابن عباس، يتردد بين الضعف والتحسين، إضافة إلى كونه موقوفاً عليه (أي من كلام ابن عباس لا من كلام الرسول).

فما قيمة هذا الأثر ـ إن صح جدلاً ـ في إثبات أمر من أمور العقيدة كهذا؟

الحقيقة أنه لا يمكن الجزم بشيء اسمه "بيت العزة" استناداً إلى كلام بهذا المستوى. وقد علمنا أن أمور العقيدة لا تؤخَذ إلا من نص من القرآن واضح المعنى، أو نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم متواتر النقل، وواضح المعنى لا ينتطح فيه عنزان. وليس هذا سوى أثر، لو صح لما كان أكثر من كلام منقول بطريق الآحاد، عن صحابي غير معصوم.

فإذا كان ذلك كذلك، فكيف أمكن لأحد أن يفتي بوجود "بيت عزة"، ثم يفتي بأن القرآن قد نزل فيه مرة واحدة، استناداً إلى أثر كهذا؟

كيف أمكن أن يكتب الكاتبون كلاماً كهذا، في كتب علوم القرآن، ثم ينقله وعاظ لا يحسنون التمييز بين شوربة العدس والكنافة النابلسية؟

من هنا فإن ما يطمئن إليه القلب أن معنى قوله (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن) هو أنه ابتدأ نزوله فيه، أو أنه الشهر الذي نزل ببيان فضله القرآن، أو كليهما معاً.

*النتيجة:


يبدو لي أن القرآن ابتدأ نزوله ـ بأية اقرأ ـ في ليلة القدر، ولم ينزل كله فيها مرة واحدة. بل منذ تلك الليلة بدأ نزوله المتفرق، على اختلاف الشهور، طوال ثلاثة وعشرين عاماً.

7: أيٌّ هي ليلةُ القدر؟


سؤال توقف السائلون عن طرحه منذ أيقنوا أنها ليلة السابع والعشرين. والحق أن الآثار الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختلفت في تحديد هذه الليلة كثيراً، بما يعزز لدينا أنها ظلت مطوية في علم الغيب، ليجتهد الناس في العبادة في ليالي رمضان. إذ لو كانت حقاً في ليلة السابع والعشرين، لما تعس كل هؤلاء القائمين في المساجد فيها كل عام. فنحن ندعو الله في ليلة السابع والعشرين بكثير من الأدعية، التي لو كان باب السماء مفتوحاً لها ـ كما هو شأن ليلة القدر ـ لانتصرنا على العدو، ولانتشر الخير والنعيم في بلادنا، ولأصبح كل من دعا بشيء قد ناله.

وأصح ما عندي فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفها، ثم أنساه الله إياها. الأمر الذي يعني ـ لديّ ـ بأن علمها بها لم يعد موجوداً، أي رُفعت، كما ورد في نص صحيح عنه صلى الله عليه وسلم.

وكل هذا يعني ـ عندي ـ أن ليلة القدر هي من ليالي رمضان بالفعل، لكنها لم تعد معروفة. فكل الأحاديث التي صحت في تحديدها، محمولة على الفترة التي عرفها فيها الرسول، قبل أن يتلاحى فيها الناس فتُرفع.

والخلاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلمها ويتكلم عنها، ثم لم يعد يعلمها، لأنها لم تعد كما كان يعلمها.

8: عن الحوض والصراط والميزان:


لقد وردت الأحاديث الصحيحة في ذكر هذه الثلاثة يوم القيامة. ورغم أن كثيراً من الجدل يدور بين العلماء حول حقيقة وجود هذه المذكورات الثلاث من رمزيته، إلا أن ذلك لا يعني أن إنكار وجودها ينصر العقل، أو أن إثبات وجودها ينصر الدين. ذلك أن المسألة ليسن من قواعد أصول الاعتقاد.

ورغم ذلك فقد اشتهر الحديث في هذه الثلاثة بين المسلمين، بصورة أوحت بأن الإيمان بها ضروري وأصيل، أصالةَ وضرورةَ الإيمان بوجود الجنة والنار واليوم الآخر.

لكن الطريف هو أن الوعاظ، وراسبي الثانوية، يتناولون الموضوع من العلماء، فيشبعونه ترغيباً وترهيباً وتصويراً، يوحي بأن ما يقولونه هو الحق المبين. وتلك عادة الوعاظ منذ ظهروا في مساجد الكوفة والبصرة فطردهم العلماء، وتلك عادة راسبي الثانوية منذ صارت نسبة التنجيح تقتضي رفع معدل الواحد منهم من 40% إلى 50% ليذهب إلى الكليات الشرعية، ويتخرج فيقول لنا إنه العالم الذي عليه أن يحكمنا بـ(ما أنزل الله).

ما الأشد طرافة فهو ترتيب هؤلاء لهذه، الواحد تلو الآخر، كأنهم رأوها بأم أعينهم، مع أن حقيقة الأمر ألا دليل لديهم من قول المعصوم صلى الله عليه وسلم في هذا الترتيب، سوى أنه لا يستقيم مع العقل البشري:

1ـ إذ لو كان الميزان في البدء، لعُرف صاحب الجنة من صاحب النار، ولما احتاج الشخص أن يعبر على الصراط، فيتعرض للسقوط في جهنم، أو يرد الحوض فيُذاد عنه ويقال له: سحقاً سحقاً.

2ـ ولو كان الصراط قبل الميزان، لعُرف صاحب الجنة الناجي، من صاحب النار المتهاوي، ولما احتاجت أعمال الشخص أن توزن، فيتعرض لامتحان قد لا يجتازه، ولما احتاج أن يرد الحوض فيُذاد عنه.

3ـ ولو كان الحوض بعد أيٍّ من الصراط والميزان، لما كان من معنى لأن يُذاد عنه أشخاص سبق أن تجاوزا بنجاح الامتحانين السابقين.

4ـ ولو كان الحوض قبل أي من الصراط أو الميزان، ثم شرب منه شخص، لما كان من معنى لأن توزن أعماله، فيتعرض لأن تطيش موازينه، أو يعبر امتحان الصراط، فيتعرض للسقوط في جهنم، مع أنه قد اتضح ـ بشربه من الحوض ـ أنه نجا، واستحق الجنة... وهكذا...

فيا عباد الله، ألا يمكن الاعتراف بأن لا أحد يعلم كيفية ترتيب مواقع هذه الثلاثة؟ هل هو صعب بالفعل على عقول ـ من يقترحون على أنفسهم أنهم أصحاب عقول ـ أن يعقلوا أن بإمكان عقولهم ألا تعلم الغيب؟

9: نموذج من تيسير الشريعة السمحة:


﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ (البقرة/187).

إذن فقد كانوا يختانون أنفسهم، ويباشرون زوجاتهم في ليل رمضان! وهذا الذي يقوله التنزيل العزيز هنا هو أمر بعد منع. يفيد الإباحة. إذن فقد كان ممنوعاً عليهم ـ قبل هذا التنزيل ـ أن يباشروا زوجاتهم ليلة الصيام! فكيف ذلك، وهذا الكلام هنا مبهم يحتاج إلى تفسير؟

والحق أن السنة النبوية قد تكفلت بالتفسير. فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب، رضي الله عنه، أنه قال: لمَّا نزل صومُ رمَضان، كانوا لا يقرَبُونَ النساءَ رمضان كُلَّه. وكان رجالٌ يخونون أنفسَهُم. فأَنزَلَ اللَّهُ تعالى الآية.

وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، أن الناس كانوا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّوا العشاء حرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ، حتى اليوم التالي. فجامع رجُلٌ امرأته بعد أن صلى العشاء. فنزلت الآية.

وروى البخاري ومسلم عن البراد بن عازب، رضي الله عنه، أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجلُ منهم صائما، فحضرَ الإفطارُ دون أن يفطر، لم يأكلْ ليلتهُ ولا يومهُ. وإن قيس بنَ صرْمةَ الأنصاري أتى امرأته بعد المغرب فطلب الطعام، فذهبت تحضره له، فنام قبل رجوعها. فلما رأته فجعها نومه. فظل صائماً حتى غُشِي عليه في اليوم التالي، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، ففرحوا بها فرحا شديداً.

*النتيجة:


كان الصيام في أول العهد يبدأ بعد صلاة العشاء، فمن أدرك الطعام وفراش الزوجية فقد أدرك، ومن تأخر عن ذلك واصل الصيام عنهما. لكن ذلك اشتد على أصحاب رسول الله رضي الله عنهم، فكانوا يختانون أنفسهم سراً، خصوصاً في موضوع الجنس، فاستجاب الله لضعفهم، وخفف عنهم، وجعل الصيام يبدأ من فجر اليوم التالي.

بعضهم يحتج بهذا لدعوى النسخ، وبعضهم يجعله نوعاً من التدرج في التشريع، كما حدث في تحريم الخمر. لكن حتى لو قبلنا بتسمية هذا نسخاً، فيجب أن نلاحظ أنه نسخ للقرآن بالقرآن، لا بما هو دونه.

10: في التفكير والتسليم:


إن في هداية الله للقلوب تفكراً وتدبراً وتسليماً. فالتفكر والتدبر من فعل العقل، فهو مقدور لصاحب العقل، أو يبدو كل أحد ـ أمام نفسه ـ قادراً عليه. أما التسليم، فيبدو لي أنه ليس مقدوراً لكل الناس: فثمة قلوب مفكرة متدبرة، وفي نفس الوقت هي قادرة على التسليم بما هو فوق الفكر، مؤهلة للتصديق بما هو متعالٍ عن التجربة، وتدل عليه مشاعر داخلية يستحيل تعليلها منطقياً.

ثمة قلوب تستريح في ظلال التسليم بالقوة العليا، لمجرد أن القوة العليا أمرت بذلك، فرفت لأمرها القلوب بالاستجابة التي تسبق كل تعليل. وفي المقابل هناك قلوب شديدة الاعتداد بنفسها وقدراتها، ولا تقبل التسليم بما لا تقوم لديها عليه الدلائل المادية.

شيء ما هنا وُجد، ولم يوجد هناك. إنها صنعة الله، سبحانه، أن ينوع في خلق النفوس. ولقد رأينا على طول الزمان انقسام المفكرين فريقين، كلٌّ ينعىٰ على كلٍّ. ولو شاء ربك ما فعلوه.

فذكر الله، سبحانه، له نتيجتان متقابلتان:

1ـ فهو، تارة، ينزل على قلوب معينة بالطمأنينة والحب واللين ("ألا بذكر الله تطمئن القلوب" الرعد/28)، فيملؤها تسليماً.

2ـ وهو، في تارة ثانية، ينزل على أخرى بالقسوة والغلظة: ("فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" الزمر/22) فتزداد عناداً كلما جاءها دليل إضافي.

ولو كان للمنطق حيلة في إقناع القلوب القاسية باللين، لما عجز الرسل الكرام، أمام نفوس لم يستطيعوا تغيير ما فُطرت عليه مقدار حبة خردل. ولقد رأينا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ موشكاً على أن يبخع نفسه لإقناع فِطَر فاسدة، فلم ينجح. ولو كان الأمر بمقدور البشر لنجح أفضل البشر. لكنه فوق طاقتهم أجمعين.

وإذا شئت أن ترى كيف علّم الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفعل حين يواجه هذه الفئة الجاسية، فاقرأ قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (الزمر/45 ـ 46).

إذا واجهت هذه القلوب، فاعلم أن كل محاولة معها حسيرة، لأنها تشبه صب الماء العذب على الأرض المالحة. ولذا فما عليك سوى التسليم بقدرة الله، فتوقف النقاش، لتقول: اللهم أنت الذي يحكم بين العباد ـ يوم القيامة ـ أيهم على الحق المبين، وأيهم على الضلال المكين.

﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ (التوبة/124 ـ 125).

اللهم ألهم قلوبنا التسليم بأننا لا نعلم إلا ما تشاء لنا أن نعلم.

11: الإيمان نعمة الله وليس معرفة العقول:


﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف/179).

أنا من الذين يعتقدون بأن الهداية مكتوبة منذ الأزل، وأن الاجتهاد في الوصول إليها، مكتوب معها منذ الأزل. فمن أقدره الله على الاجتهاد في الوصول إلى الهداية، لم يصل إليها لأنه اجتهد في ذلك، بل لأن الله قذف في قلبه نوراً، يهديه قبل التفكير، ويهديه مع التفكير، ويهديه بعد التفكير. ومن لم يشأ الله له ذلك كتبه في الأذلين، ولم يقدره على غير ذلك.

لم كان ذلك كذلك؟ لأن الله يفعل ما يشاء. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. وكلٌّ في كتاب مبين.

ولسائل أن يسأل: فلم الاجتهاد في محاولة الاهتداء إذن؟

والجواب هو: لكي تحاول الوصول إلى ما لا تعلم مما كتبه الله. فأنت لا ينبغي لك أن تستسلم فتقول: أنا من أصحاب النار. فمن قال لك إنك من أصحاب النار؟ ولم لا تفترض العكس، وتعمل بمقتضاه، فتقول: يمكن لي أن أكون من أهل الجنة، فدعني أحاول.

هذا هو الفرق بين العجز والحزم: فمن قال: أنا من أهل النار، فهو عاجز. ومن قال: سأفعل ما أستطيع لأنال ما أرجو، فهو حازم. والله لا يتخذ العاجزين أولياء.

أنت يا صديقي بين محاولتين، فلم تختار محاولة السوء، متوقعاً أنه مكتوب لك السوء، كأنك رأيت مصيرك في اللوح المحفوظ؟

اعمل للجنّة كما لو كنت رأيت نفسك مكتوباً لها في اللوح المحفوظ.

هذا هو ما تستطيعه، فلا تشتغل بنا لا تستطيعه.

12: (כ פ ר):


لقد نص الكتاب العزيز على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أميٌّ، لا يقرأ ولا يكتب، إذ قال: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت/48).

ولقد أفك من زعم بعد هذا البيان الإلهي أنه كان يقرأ ويكتب. فلقد كانت صفة الأمِّيَّةُ ضرورية للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم زيادة في إعجاز كتاب يبلّغه كما سمعه، لا كما قرأه من كتاب، فيتشكك المتشككون. ومع ذلك فقد كان قلبه يرى برؤية الله. فقد ثبت أنه محا بيده كلمة (رسول الله) من صحيفة الحديبية، إذ تأبت قريش على قبولها، وتأبى علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ على محوها.

دعونا الآن نرى هذه الآثار عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين:

1ـ روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِن نبي إِلا وقد أنذر أُمَّته الأعورَ الكذَّابَ. أَلا إنه أعور ـ وإِنَّ ربَّكم عز وجل ليس بأعورَ ـ مكتوب بين عينيه (ك ف ر)».

2ـ وروى مسلم عن أنس بن مالك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال مكتوب بين عينيه (ك ف ر) أي: كافر».

3ـ وروى مسلم عن أنس بن مالك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال ممسوح العين مكتوب بين عينيه كافر. ثم تهجاها (ك ف ر) يقرؤه كل مسلم».

إذن فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم على جبين الدجال (ك ف ر) فتهجاها هو، أو تهجاها الراوي عنه: (كافر).

لقد ثبت هنا أنه رآها حروفاً متفرقة. فكيف، وهو لا يعلم القراءة، ولا يعلم أن الحروف العربية متشابكة في الكلمة الواحدة تكون بهذه الصورة: (كافر)؟

لقد رأى صورة فنقلها كما وعاها قلبه، رأى حروفاً ثلاثة متفرقة، فألقى الله في قلبه أنها (كافر).

فما هي الصورة التي رآها؟ وكيف تستقيم مع اللغة العربية المكتوبة؟

دعونا نتذكر أن الدجال يهودي، يعني عبري اللغة. ودعونا نتذكر أن العبرية قديمة قدم أختها العربية، لكنها تكتب حروفاً، لا كلمات متشابكة. فكلمة كافر في العبرية تُكتب هكذا (כ פ ר) وتنطق (كوفير) أي كافر. ويبدو لي أن هذه هي الحروف التي أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبين الدجال. والله أعلم.

13: في تواتر خبر الدجال:


كثيراً ما يروق لنا ـ ونحن نحاول العلمية ـ أن ننكر ما لا يتوافق وماديتنا، التي تتزايد مع سيادة الوعي الحديث. لكن البحث العلمي من الممكن له ألا يكون مادياً كذلك. فالإنشاء النظري القائم على التسلسل المنطقي علمي كذلك، بل وسابق على التفكير المادي البحت.

حسناً.. ربما كنت قد قلت ذات مرة (في كلام شفهي) بأن خبر الدجال ليس ثابتاً قطعياً. لكنني الآن أعاود البحث في الصحاح، لأرى إن كنت قد تسرعت حين قلت ذلك، أم أصبت. لهذا كانت هذه السطور، بعد بحث علمي في الصحيحين فقط.

من المعلوم أن التواتر يفيد العلم القطعي. أي أن الخبر المتواتر يصلح للاحتجاج به في أمور الغيبيات. ولقد وجدت أن ذكر الدجال ثبت ـ في الصحيحين فقط ـ عن ستة عشر صحابياً، كلهم رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتفق الشيخان منهما على ثمانية، هم: عائشة أم المؤمنين، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، والمغيرة بن شعبة. وانفرد البخاري بالرواية عن ثلاثة آخرين هم: سعد بن أبي وقاص، وجابر بن عبد الله، وأبي بكرة. فيما انفرد مسلم بالرواية عن خمسة آخرين، هم: أبو الدرداء، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو، والنواس بن سمعان، وأم شريك. وكل هؤلاء رواه عنهم عدد كبير كذلك، في كل الطبقات، في الصحيحين فقط.

ولقد سبق أن قلت بعدم وجود الحديث المتواتر. وما أزال أقول بذلك. ولكني لم أتطرق إلى الخبر المتواتر، أي الحديث عن شيء بعينه ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، بطريق التواتر. وإنني لأظن أن الكلام على وجود الدجال ـ الشخص الذي يأتي فتنة للناس في آخر الزمان ـ متواتر، أي يفيد العلم القطعي، إن شاء الله.

*النتيجة:


يظهر شخص اسمه المسيح الدجال، في آخر الزمان قبيل يوم القيامة، يلقي الشيطان على يديه بعضاً من المخاريق الخداعة، فيفتن الناس عن دينهم، ولا يثبت على دينه منهم إلا من شاء الله له الثبات. أما تفاصيل ما يحدث، فأخبار آحاد غير متواترة بذاتها.

وهذا الحكم القاطع، لا ينطبق على المهدي ونزول عيسى، ففي كل منهما تحقيق مختلف، قد يوفقنا الله إلى إتمامه، إن شاء.

14: وفاة عيسى بن مريم عليه السلام:


1ـ ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ (آل عمران/55).

2ـ ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيماً﴾ (النساء/157 ـ 158).

تصرح الآية الأولى بأن الله سيتوفى عيسى بن مريم عليه السلام. وتصرح الآية الثانية بأن اليهود لم ينجحوا في قتله أو صلبه. ويرغب المسلمون والنصارى بأن ينزل المسيح بن مريم، من السماء، قبل نهاية الكون، لينصر الدين الحق، ويمحو ما سواه عن وجه الأرض. إذن فالأسئلة الآن أربعة هي:

1ـ هل مات عيسى بن مريم مع رفع الله إياه إليه؟

2ـ هل بقي حياً في السماء مدة، ثم مات كما يموت الناس؟

3ـ هل بقي حياً في السماء إلى الآن؟

4ـ هل سينزل في آخر الزمان، ليلبي حاجة المؤمنين به للنصر؟

أما الوفاة المذكورة في الآية، فلا تدل على أنه مات، ولا تدل على أنه باق إلى الآن ينتظر النزول. فحتى لو كان عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ سينزل، فلن يحتاج إلى البقاء حياً لينزل، إذ بإمكان من أماته ـ سبحانه ـ أن يحييه، وقد أحيا على يديه أمواتاً قبل ذلك في حياته. فالوفاة في الآية تحتمل معنيين: النوم، والموت.

وللتدليل على أن النوم موت يكفينا قول التنزيل العزيز: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ (الزمر/42). فالله يتوفى الأنفس ـ التي لم يقض عليها بالموت ـ في المنام؛ ويتوفى الأنفس التي قضى عليها الموت بالموت. فأيهما المراد في قوله (إني متوفيك): الموت أو النوم؟

إن دخول الاحتمال يمنع القطع:

أ: فمن الممكن أن يكون عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ قد توفي نوماً عند الرفع، ومن ثم فهو الآن حيٌّ في السماء، تمهيداً لنزوله إن نزل.

ب: ومن الممكن أن يكون عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ قد توفي موتاً، عند الرفع أو بعده، ثم يأذن الله بإحيائه لينزل، إن كان سينزل بأمر الله.

*النتيجة:


نحن نعلم ـ يقيناً ـ أن نبي الله لم يقتله اليهود ولا غيرهم ولم يصلبوه، إذ لم ينجحوا في ذلك، بنص القرآن. لكننا لا نعلم إن كان قد مات بعد رفعه، أم مع رفعه، أم بقي حياً في السماء إلى الآن. أما تحقيق نزوله فمسألة أخرى، نتطرق إليها في نفحة قادمة إن شاء الله بذلك وسمح.

15: أهل البيت:


﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَّؤوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً* يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيماً﴾ )الأحزاب/27 ـ 29).

وإنما أتيت بالآية الأولى، لأن لها علاقة بما بعدها، خلافاً للظاهر.

نزلت الآيات بعد غزوة الخندق، والقضاء على بني قريظة، إذ نقضوا نصوص "صحيفة المدينة" وتحالفوا مع الغزاة من كفار مكة ـ ومن شايعهم من قبائل العرب ـ لاجتثاث شجرة الإسلام.

إذن فقد أصبحت أموال بني قريظة ـ وهي كثيرة ـ في أيدي المسلمين، وجزء غير قليل منها في الخزينة العامة (بيت مال المسلمين)، ووسع الله على المسلمين بعد سنوات من العسر والفاقة، وصار الزوج يأتي لزوجته بما لم يكن مستطيعاً أن يحدثها عنه في السابق.

لكن نساء النبي ظللن نساء النبي، كما ظل النبي هو النبي: رسول الله الزاهد، الذي لم يتوسع حتى بعد أن توسع الناس، لسببين: لأنه كان يريد الآخرة فقط، ولأنه ولي الأمر الذي لا يرى السعة من حقه، حتى لو كانت حلالاً متساوية مع الرعية!

ولئن كانت نساء النبي زاهدات حقاً، إلا أنه لا يمكن تصور أن زهدهن يبلغ زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يدانيه. لذا فقد رآهن الزاهد الأعظم يتطلعن نحو قليل مما أصابه الجميع، فرغبن أن يوسع عليهن رسول الله في النفقة.

لكن رسول الله صُدم، فقد كان يرجو أن يكنّ مثله. وانحاز الله سبحانه إلى رسوله، وأنزل الآيات المذكورة: يا نساء النبي، إن كنت ترد الدنيا، منحتكن ما قدرت عليه منها، ثم فارقتكن لأتفرغ لزهدي الخاص، ولا تثريب عليكن.

وفي ذلك روى مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أمهاتنا الكريمات يتلو عليهن هذه الآيات، فابتدأ بأحبهن إلى قلبه عائشة، الفتاة الصغيرة التي يخشى عليها ألا تحسن الاختيار، فقال لها: "إني ذاكر لك أمرا. فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك".

فقالت أمي وأمكم سيدة الحكمة ـ عليها السلام ـ في التو وعلى البديهة: "في أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة".

وكذا فعلت باقي أمهاتنا الكريمات.

إذن فقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه وآله ـ الزهد الخالص، في انتظار النعيم المقيم.

ذلك كان رسول الله. ولقد كان ينبغي لحكام الزمن الأغبر، أن يتأسوا برسول الله لو كانوا مؤمنين: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب/33).

16: المباهلة وحديث الكساء:


أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أسقف نجران باليمن، يدعوه وقومه إلى الإسلام، فرد الأسقف بإرسال وفد من الكنيسة النجرانية، إلى المدينة النبوية، ليناقش الأمر مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان مما سألوه عن عيسى بن مريم عليه السلام، فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران/59 ـ 61).

وإذ لم يعجب الوفدَ الكنسيَّ أن يقر ببشرية عيسى بن مريم عليه السلام، فقد صاروا الآن أمام تحدي المباهلة. والمباهلة تعني أن يخرج الفريقان المتنازعان ـ كل بأهله ـ إلى الفضاء، ويدعو الله أن ينزل لعنته على صاحب العقيدة الخطأ.

وقد ورد في صحيح مسلم، عن هذه الحادثة أن الرسول الله صلى الله عليه، خرج بفاطمة الزهراء، وزوجها علي بن أبي طالب، وابنيهما الحسن والحسين، وهو يقول: "اللهم هؤلاء أهلي" ـ ولم يذكر البخاري هذا الحديث ـ فنكل الوفد الكنسي عن المباهلة، وقبل دفع الجزية، وفتح أبواب نجران للدعوة المحمدية. وتعلق الشيعة بهذا الحديث، ليخرجوا نساء النبي من "أهل البيت" ويردوا نص القرآن الذي يقول: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا﴾ (الأحزاب/32 ـ 33).

والخطاب هنا موجه إلى نساء رسول الله، أمهاتنا عليهن السلام: أهل البيت. ولقد أفك قوم زعموا أنهن لسن من أهل البيت ـ التفاتاً عن القرآن ـ من ناحيتين:

1ـ لقد أفكوا أولاً، إذ جعلوا الحديث النبوي ـ وهو دونه ـ سيداً ومهيمناً على التنزيل العزيز.

2ـ ولقد أفكوا ثانياً، إذ اختلقوا تضارباً وتناقضاً بين فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصوص القرآن.

ولقد سبق أن روينا في صحيح مسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاطمة وعلي والحسن والحسين: "اللهم هؤلاء أهلي".

لقد فتن هذا الحديث المنفرد الشيعة. وإذ أحبوا أن يقيموا عليه ديناً، فقد استشهدوا له بحديث آخر، ورد في كتب أقل صحة، وسموه "حديث الكساء" الذي رواه الترمذي عن عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه ـ قال: نزلت هذه الآية على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير﴾ في بيت أم سلمة. فدعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فاطمةَ وحَسَنا وحُسَيناً، فجلَّلهم بكساء ـ وعليّ خلفَ ظهره ـ ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذْهِبْ عنهم الرجس، وطهِّرهم تطهيراً. قالت أمُّ سلمة: وأنا معهم يا نبيَّ الله؟ قال: أنتِ على مكانِكِ، وأنت على خير".

ليس هذا هو الخبر الطريف، بل إنه لمما يضحك الثكلى أن يجعل قوم لا علم لهم بالحديث، حديث آحاد ـ انفرد به الترمذي ـ متواتراً!

لا بأس، فالقوم يفهمون التواتر على أنه الروايات في الكتب! وكل ذلك ليردوا القرآن الكريم، حين وصف نساء النبي بأنهن أهل البيت. والحق أن أهل الحق إذ يقبلون بحكم الحديث الصحيح، إلا أنهم لا يقبلون بأن يردوا به نص القرآن بكل كتب الحديث مجتمعة. فما العمل؟

لا بد من الجمع، حيث لا يوجد التناقض. فحديث "هؤلاء أهلي" لا يستطيع نفي تسمية القرآن لنساء النبي بـ"أهل البيت".

ولنر إلى خاصة أهل البيت النبوي الذين تحرم عليهم الصدقة، إذ أغناهم نصيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم في الخمس عن ذلك:

1ـ نساؤه بالدرجة الأولى، بنص القرآن.

2ـ ثم فاطمة وعليا والحسن والحسين، بنص الحديث المذكور.

3ـ ثم بناته الأخريات ـ زينب ورقية وأم كلثوم ـ لأنهن من صلبه، ولا يعقل أن يحرمن شرفاً مُنح لسلالة أختهن فاطمة.

4ـ ثم كل من كان من سلالة ابني عبد مناف: هاشم والمطلب، دون عبد شمس ونوفل.

17: البسملة بين السور:


نحن لا نعلم لِمَ لمْ يبدأ الله سورة التوبة بالبسملة، وإن تكاثرت أقوال المفسرين في ذلك. فالمصحف يحوي كلام الله ـ ومنه البسملة في قلب سورة النمل ـ وقد جمعه الصحابة فريقاً واحداً متجانساً، لم يشذ منهم سوى واحدٍ أو اثنين، في مسألة أو اثنتين، ليس إثبات البسملة بين السور واحداً منهما. لذلك، لم ينعقد الإجماع على كون البسملة في أوائل السور من القرآن. ولم يقل بهذا من الأئمة سوى الشافعي رحمه الله.

فلما أنكر الناس على الشافعي انفراده بإثبات قرآن غير مجمع على قرآنيته، دافع الإمام النووي عن المذهب، في وجه هذا الجم من الجمهور بقوله: "إنما نعتبر البسملة بين السور من القرآن، حكماً لا عقيدة".

أي أننا نعتبر ذلك مسألة من الفروع الخلافية، نحن فيها على رأي، ثم لا نكفّر من خالفنا فيه، ولا نعتبر من لم يقل بكون البسملة بين السور من القرآن كافراً، وإن كنا نراه خاطئاً.

فإذا ما اعتبرنا أن البسملة بين السور مجرد فاصلة بين موضوعين، رأى الصحابة أنهما مختلفين، تبينت لنا فائدة ذلك، في تحقيق الربط بين كل سورة وسابقتها. إذ يزول الفاصل بين ما يراهما الرائي موضوعين مختلفين: أعني فاصلة البسملة.

من هنا يمكن لنا أن نتبين بعضاً من فوائد قوله تعالى في ابتداء سورة قريش: "لإيلاف قريش" حين يسبق ذلك عجبنا من ابتداء السورة بحرف الجر (ل) هذا الذي يسبق المصدر "إيلاف"، ليفيد التعليل. فأي تعليل هذا الذي يبدأ به كلام منفصل عن سابقه؟

لا يمكن عقلاً ولا في لغة العرب، أن ينضبط ذلك، إلا بتقدير محذوف، أو معنى سابق بعيد منفصل! بمعنى آخر، سوف يسبق إلى الخاطر السؤال التالي: لم تبدأ سورة مستقلة في المصحف بتعليلٍ ما؟

إذن لا بد من ربط سورة قريش، بنهاية سورة الفيل، التي سبقتها في ترتيب المصحف، وفصلتها عنها بسملةٌ، يرى الجمهورُ أنها ليست من أيٍّ من السورتين. فإن قبلنا بهذا، وواصلنا التلاوة من نهاية الأولى إلى ابتداء الثانية، حصل لدينا هذا السياق: "فجعلهم كعصف مأكول* لإيلاف قريش": أي أن الطير الأبابيلَ ترمي الكفارَ بحجارة من سجيل، لتأليف قريش: أي لمنحها ألفة خاصة في قلوب القبائل، وأمناً ممتداً يسمح بالجمع بين الاستقرار والسفر للتجارة، دون خوف من غزو القبائل. وإنما حدث كل هذا التأليف والتخصيص والنعيم لقريش، تمهيداً لجعلها حاضرة العرب وسيدتهم الأنيقة، التي يرغبون في لغتها، ويتوحدون حولها في المجامع، فينزل بها القرآن.  

بعد هذا الشرح، يمكنا الآن أن نربط بين سورتي الأنفال والتوبة ـ كما ربطنا بين سورتي الفيل وقريش ـ فنتذوق مدى جمال حذف البسملة قبل سورة التوبة.

18: في المثاني:


﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الزمر/23).

فالقرآن في غالبه مكون من أنساق ثنائية: أي أنه يذكر الشيء وما يقابله: فلا تُذكر الشرائع (الحلال والحرام) إلا وتتبعها العقائد (الإيمان والتصورات الكبرى): فكل ما أمر به الله أو نهى عنه، إنما هو لترسيخ الإيمان أو امتحانه أو كليهما مجتمعين. ولا تُذكر الجنة، إلا ويتبعها ذكر النار. ولا يمدح القرآن المؤمنين إلا ويذم الكافرين. وإذا جاء السياق القرآني بالسماء، فإنه يتبع ذلك بذكر الأرض. وإذا حذر من فتنة الدنيا رغّب بنعيم الآخرة. وإذا ذكر الأنبياء وكفاحهم، ثنى بتوبيخ الكفار وعنادهم. وإذا ذكر الإنس جاء بعده بالجن، أو العكس... وهكذا.

ولقد جعل الله ذلك كله مختصراً مكثفاً في سورة الفاتحة، فسماها أم الكتاب: فهي دليله، وهو مدلولها. وشرف الدليل بحسب ما يدل عليه، كما يقول الشيخ الأكبر رحمه الله: فإذا كان القرآن عقيدة وشريعة، وطريقة، وحقيقة؛ فإن كل ذلك دلت عليه الفاتحة: فأما الشريعة والعقيدة فدل عليهما ﴿إياك نعبد﴾، وأما الطريقة فقادت إليها ﴿إياك نستعين﴾، في حين توصل ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ إلى الحقيقة.

فبان بهذا أن الفاتحة اعتقاد وعمل، وأسلوب وثمرة. وكلما تأملت في آياتها ازددت رفعة وسناءً، وكأنك تقرأ القرآن كله.

19: فيما قيل عنه نسخ التلاوة:


لا ناسخ ولا منسوخ في آيات القرآن، فالقرآن كله حجة من سورة الفاتحة إلى سورة الناس. وقد تكلم بعض القدماء كما يتكلم البشر، فأحسنوا كما يحسن العظماء، وأخطأوا كما يخطئ العلماء: فمن ذلك ما زعمه بعضهم من وجود آيات في المصحف مقروءة حروفها، منسوخة أحكامها ـ كأنهم أرادوا أن يقولوا إن بعض القرآن مهجور ـ ومن ذلك نسخ التلاوة، وهو ما زعمه البعض منهم من وجود حكم الرجم في القرآن المنسوخ تلاوته. ويبدو لي أن هذه الفرية أعظم ما سمعت في القرآن.

لقد أرادوا أن يثبتوا الرجم بالقرآن، كأنهم شعروا أن الحديث لا يكفي للاستدلال، مع أنه يوافق أصول الاستدلال عندهم، فألووا على لسان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، نقلاً يقرأ فيه كلاماً ركيكاً يسمونه آية الرجم. تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.

فليت شعري، أهذا الذي نقلتموه لنا قرآن أم سنة؟

فإن كان قرآناً فلا يكون إلا بالتواتر، لا بالنقل الموقوف عن صحابي واحد. وإن كان سنة، فأنتم لم تقولوا إنه سنة. ونحن لا نقول إنه سنة. فهل تجعلون ما هو أقل من السنة قرآناً؟

*النتيجة:


ليس في القرآن أية رجم منسوخ تلاوتها. والنص الذي نقلوه عن عمر رضي الله عنه، شاهد ــ بذاته وركاكته ــ على أنه لم يكن من القرآن ساعة من نهار أبداً. ولهذا أنكر صحة حكم الرجم من أنكر، ولم يخرجوه من الإسلام. وهيهات أن يكون مسلماً لو كان ثمة آية رجم أنكرها!.

20: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي:


روى مسلم في صحيحه، ومالك في الموطأ والترمذي في سننه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه: "قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل: فإذا قال العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾، قال: مجدني عبدي. فإذا قال: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".

إذن فالصلاة المقسومة بين العبد والرب هي الفاتحة. فهي الصلاة، لأن لا صلاة دونها، كقوله "الحج عرفة" لأن لا حج دون الوقوف به. وإذن فالفاتحة مقسومة قسمين، لأنه لا يظهر فيها سوى حضورين: حضور الرب وحضور العبد: العبد يقف بباب مولاه يرجو الدخول، فيحمد ويثني ويدعو: ﴿الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين﴾؛ فإذا وصل إلى ﴿مالك يوم الدين﴾ فقد أتم قسمه الذي هو من نصيبه: أعني القسط المكرس لدعاء العبد سيده؛ وعندئذ يقترب ويرجو، وقد شعر أن الباب موشك على الفتح، وأن الإذن قادم في الطريق، فيزداد رجاءً، ويقترب من الباب أكثر، وهو يقول: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾.

﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾:

وهذه الآية برزخية كما يراها الشيخ الأكبر، يقع فيها الاشتراك بين الله العلي الأعلى المحتجب، وراء أنواره السرمدية، وبين العبد الواجف الواقف بالباب يرجو ويتحنن ويتذلل الإذن بالدخول.

وإذ أذن الله أن يدخل العبد، وأصبح بين يديه مواجهة، فقد تحولت صيغة الخطاب، لأن البعيد ما عاد بعيداً، بل طرق الباب وأُذن له بالدخول فصار قريباً، يقف بين يدي من يرجوه، فيكلمه مواجهةً بضمير المخاطَب: فيقول له: اهدنا (أنت) يا رب. فيما كان يقول في السابق، الحمد لله (له) رب العالمين. وذلكم هو أسلوب الالتفات: الذي يعني تحول الخطاب من ضمير إلى آخر. وكأن الله إذ يستجيب، يقول: أنت عبدي أثنيت عليّ بما تستطيع؛ فسأبدلك ببعدك قرباً؛ فتقول لنا كفاحاً، ومباشرة: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾.

عبادة خالصة وتفويض تام! والعبادة ـ كما تعلم ـ أعلى مراتب الخضوع، وأسمى درجات الانشراح. فإذا أردت أن ينشرح صدرك: فقدم سيدك على نفسك ﴿إياك نعبد﴾؛ وقدم المستعان به على المستعين ﴿وإياك نستعين﴾. فها هنا معرفة وسيلتها العبادة. والكمال لا سبيل إليه إلا بالاستعانة بالمعين.

﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾:

إن العبد يعبد ربه، وقد يرى في لحظة تيه أنه يعبد ربه بمحض مشيئته ـ أعوذ بالله من الخذلان ـ حين تداعبه نفسه فيظن أن قوله: ﴿إياك نعبد﴾ يعني أنه قادر على عبادة ربه من نفسه وبنفسه. لكن الله الذي فتح له الباب، وأذن بالدخول، يهديه قبل أن يضل، ويعلمه ما يقول، فيقول متبرئاً من حوله وقوته، إلى حول الله وقوته: ﴿وإياك نستعين﴾.

لقد أدرك العبد حدوده، ووقف عندها، فعطف عليه الرب، بأن علمه كيف يهتدي إلى الصراط المستقيم، بأن يدعوه: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾، إذ لا قدرة لأحد على أن يهتدي، إلا إذا هداه الله، كما قال بذلك الأنبياء على طول الدهور: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ (الأعراف/43). وهو طريق غير المغضوب عليهم، ممن عاندوا الأنبياء وقتلوهم؛ وقرأوا الكتاب وحرفوه. وهو طريق غير الضالين، الذين اتبعوا المغضوب عليهم، فصدقوهم بما قالوا.

إذن فهي لعنة أبدية أن يتغير الكتاب على يد قوم، ويصدقهم بذلك آخرون! لعنة أبدية لا ينجو منها إلا من اقتسم الصلاة مع ربه، فوقف بين يديه خاشعاً، وتعلم منه ما لم يعلم. ولا ينجو من ذلك إلا من سار على هدي ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾. ولقد رأيت كثيراً ممن يحققون نصف الآية الأول ﴿إياك نعبد﴾ فيرون أنهم يعبدون الله بقوتهم الذاتية واختيارهم المحض، دون أن يتنبهوا إلى الحرز المكين الذي أهملوا الالتجاء إليه في ﴿إياك نستعين﴾. وإني لأخاف أن يكونوا على ضلالة. فما في الفلسفة خير إن لم تهد الناس إلى معرفة قانون التوازن.

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾:

لقد سبق أن قال العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين﴾ فكان الخطاب موجهاً إلى الله، بضمير الغائب المتعالي (هو) المحتجب وراء أنواره السرمدية.

هكذا كان العبد واقفاً بعيداً خائفاً متردداً، يرجو الدنو والدخول.

إن العبد بين يدي ربه ـ وحيداً ـ يدعوه، مواجهة وقد دخل في الحضرة الإلهية، وامتثل متأدباً يناجي.

فلمَ يناجي الوحيدُ بصيغة الجمع؟

إنه العبد. وإن العبد مهما فعل فسيظل يخشى غضب سيده. فإذا كان عبداً صالحاً أحب سيده المحسن، وأحب أن يقبل سيدُه طاعته. لكنه يعلم أن لسيده أحباباً مؤكدين، سبق أن أعلن أنه يحبهم، ويرضى عنهم، ويرتضي فعالهم. والعبد الآن يرجو أن يكون معهم. فماذا يفعل؟ يزج بطاعته في حزمة طاعاتهم، ويخلط عبادته بعبادة الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين، لعلها تُقبل بهم.

لا جرم، فهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم. ألم ترَ كيف استعان نبي الله إسماعيل على الذبح، بأن زج نفسه في زمرة الصابرين ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات/102) فجازاه الله ضعف ما أمل وزيادة: رزقه الصبر الذي طلبه، ثم افتداه؟

ودعونا نتذكر كيف يتأسى الكرام بالعظماء، في مواقف المحن، حين نرى كيف وقف مصعب بن الزبير، أمير العراقين، في لحظة المواجهة بين الصفين ـ صف الزبيريين وصف الأمويين ـ وقد عرض عليه عبد الملك بن مروان أن يمنحه كل ما يطلب، ثم لا يقاتله، لأنه يضنّ به أن يموت في معركة خاسرة. وقد كانا صديقي طفولة وصبا.

لقد كان مصعب يعلم أنها معركة خاسرة، لكنه أراد أن يتشبه بمن هم أكرم منه ـ من آل البيت عليهم السلام ـ فيتجرع الموت دون كرامته، كما تجرعه الحسين وآله، فقال:

وإن الأُلٰى بالطَّفِّ من آلِ هاشمٍ ـ ـ ـ ـ تَأَسّوا فَسَنّوا للكرامِ التَأَسِّيَا

فقاتل حتى قُتل، رحمه الله.

21: ولتعرفنهم في لحن القول:


﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون﴾ (البقرة/14).

يحكي التنزيل العزيز هنا مقطعاً من حوار، كان يدور بين يهود المدينة ومنافقيها. وكلاهما مواطن في الدولة أقسم على يمين الولاء للدستور (صحيفة المدينة).

إذن فالمشهد يعرض لصوت المؤامرة!

1ـ ثمة حلف بين الطرفين.

2ـ ثمة طرف ينعى على طرف أنه غير جذري في اختياراته.

3ـ لكن المنافقين ـ الطرف المتهم ـ بريئون من الاتهام بالإيمان: فهم إنما يقابلون المؤمنين مصادفة: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ ولا يسعون إليهم سعيهم لليهود.

 4ـ وعلى العكس من ذلك، يلتقي المنافقون بشياطينهم اليهود، اختلاءً مقصوداً من حليفين (خلوا) بهدف التآمر والكيد والاستهزاء.

5ـ وحين يلقون المؤمنين يمنحونهم كلمة فقط، كأنما هم يستكثرون على انفسهم هذا الاضطرار لإعلان مالا يبطنون، فيقولون لهم باختصار: (آمنا) مجردة عن أي حرف من حروف التوكيد.

6ـ وفي المقابل يبدو لقاء المنافقين باليهود مليئاً بالترحاب وحروف التوكيد ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون﴾. كما نبينه فيما يأتي:

6/أ: فأولاً: هم قد استخدموا الجملة الفعلية في خطابهم للمؤمنين (آمنا) التي تفيد حدوث فعل عارض غير ثابت، لأنه متعلق بالزمن، خصوصاً في صيغة الماضي. في حين أنهم استخدموا الجملة الإسمية في قولهم لشياطينهم ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون﴾؛ الدالة على التحقق والثبات والدوام، كونها غير متعلقة بزمن.

6/ب: وثانياً: لم يكن خطابهم للمؤمنين جديراً بأقوى الكلامين: إذ لم يسبقوا كلمتهم (آمنا) بأي حرف توكيد. فجاء غفلاً عاماً سريعاً يفيد التردد. فأنفسهم لا تساعدهم على توكيد الإيمان بأكثر من كلمة مجردة.

6/ج: وثالثاً: وفي المقابل، نلاحظ أنهم عند قولهم لليهود ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون﴾؛ قد استخدموا العديد من حروف التوكيد وأساليبه، منها:

6/جـ1: تحقيق الخطاب بـ(إن) الثقيلة التي تسبق الكلام، مبالغة في تأكيد المقول.

6/ج2: تكرار تحقيق التأكيد بـ(إن) الثقيلة المقترنة بـ(ما) الكافة في قولهم: (إنما).

6/ج3: استخدام أسلوب القصر في قولهم: (إنما نحن مستهزئون) فالمنافقون ليسوا إلا مستهزئين من المؤمنين، أو هم مستهزئون فحسب. ولا يحتمل قولهم أي شبهة تنفي نيتهم المبيتة في الاستهزاء من المؤمنين.

22: حوار:


﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ، وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ، مِنْ قَرْيَتِنَا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا. قَالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ!* قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ، بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا. وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا. وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا. عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ،ِ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ (الأعراف/88 ـ 89).

نبي خاشع وقوم جبارون، يهددونه بالنفي إن لم يعد إلى الضلال الذي هم فيه. فيسألهم متعجباً باستنكار:

ـ أتعيدوننا في ملة نحن نكرهها؟ سنكون إذن قد افترينا على الله كذباً، لأن حالنا سيشبه شخصاً آمن بالله ثم اكتشف أن الله غير موجود، فارتد. وليس شيء أشد مقتاً من هؤلاء الذين يؤمنون بالله أول النهار ويكفرون آخره.

صحيح أننا قد اخترنا أن نؤمن بالله. ولكن هل حقاً نحن نعرف أننا قد اخترنا بكامل إرادتنا؟ ولو كان حقاً اننا اخترنا طريقنا بكامل إرادتنا، فما هو فضل الله علينا حينئذ؟

والحقيقة أننا نعتقد ونرجو ألا نعود إلى ملتكم، إلا إذا كان الله قد شاء لنا ذلك، وكتب علينا الشقاء، دون أن نعلم.

سنؤمن لكن بإذن الله. وسنتمسك بحبله لكن إن شاء لنا ذلك. ورغم أننا لا نستطيع الجزم بأن الله سيواصل منح قلوبنا السكينة، إلا أننا سنحاول ان نفعل ما أمرنا، متوكلين عليه.

هذه هي حقيقة القدر يا أصدقائي كما يعرفها الأنبياء الموصولون بالسماء: قدرة الله، وما كتبه مما نفعل، ومما لا نفعل، ومما لا ندري ما يفعل بنا اللهُ الرحمن الرحيم.

إيمان خائف خاشع، من نبي يترقب من الله نزول الرحمة، ولا يتوكل على نفسه ولا على ما يظنه حسن العمل.

عمل دون انتظار النتيجة، لأن العمل ذاته من الله. وتوبة لو لم يأذن الله بها لما حدثت: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة/118)

ووالله الذي لا إله إلا هو، ما عرف الله من رأى نفسه حر الاختيار. ولا عرفه من رأى أنه يجبره على الفعل، ثم يحاسبه عليه. إنما الناس بين المنزلتين يتهادون، ولا يعلمون نهاية طريقهم إلا بالأمل.

يقول الشيخ الأكبر: "لو اجتمع الخلائق، كلهم، على أن يريدوا شيئاً، لم يُرد الله تعالى أن يريدوه، ما أرادوه؛ أو يفعلوا شيئاً لم يُرد الله تعالى إيجاده، وأرادوا عندما أراد منهم أن يريدوا، ما فعلوه، ولا استطاعوا على ذلك، ولا أقدرهم عليه. فالكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، من مشيئته وحكمته وإرادته. ولم يزل ـ سبحانه ـ موصوفاً بهذه الإرادة أزلاً".

23: خصوصية المباهلة:


﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران/59 ـ 61).

هذه آيات المباهلة التي تكلمنا عنها سابقاً. والآن كلما تغاضب أحمقان، دعا أحدُهما الآخرَ إلى المباهلة! فسبحان من خلق الحمق وجعل له أهلاً مأهولين! فإنما كانت المباهلة معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصة به، ولا تتكرر لغيره.

لقد كانت المباهلةُ ـ في هذه الواقعة التاريخية ـ تحديا من الله ورسوله، لمن ينكرون طبيعة عيسى الحقيقية. ولعمري لقد كانت الإجابة ستكون فورية، لو لم يتوقف المنكرون عن المعاندة العلنية، لما يقوله القرآن في هذا الصدد. وما من أحد الآن ينبغي له أن يتوقع إجابة فورية من السماء، في خلاف بينه وبين أحد آخر. وإن كل هذا لا يتكرر من بعدُ في أي موقف. أتدرون لم؟ لأنه لو حدث أن تباهل اثنان، فلعن الله أحدهما، فسيكون الأول ولياً مقدساً، وسيكون الآخر شيطاناً مريداً.

لذا نقول اليوم بألا مباهلة. ولا يتباهل اثنان اليوم إلا كانا أحمقين. أما الاحتجاج بوقائع الناس فيما بعد، أو ما يُنقل مما يُقال إن بعض السلف فعلوه، فلا حجة فيه، لأن هذه النصوص مجرد نصوص؛ نصوص يعتور صحة نقلها شك. وحتى لو صح بعضها، فهو مجرد قصة بشرية تحكي فعل أناس مثلكم غير معصومين، ولا حجة فيه.

24: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر/28):


"إنما" حرف قصر عند جمهور البلاغيين، وهي تفيد تأكيد التوكيد عند فريق آخر منهم. والمعنى متقارب. أما النحويون فيسمونها "كافة ومكفوفة" لأنها مكونة من حرفين: "إن" الناصبة و"ما" التي منعت عملها فلم تعد ناصبة.

ما يهمنا هنا هو المعنى البلاغي: فهي حرف قصر لأنها تقصر المعنى على فرد واحد من أفراد جمهور المشار إليهم: أي أنها تنفيهم كلهم ابتداءً، ثم تثبت منهم واحداً فقط.

فهي إذن بمعنى: "ليس إلا". والمعنى المجمل للآية هنا هو: "لا يخشى اللهَ من عباده خشيةً حقيقية إلا العلماءُ".

والآن تأملوا يا أصدقائي، فيما حولكم من المدينة والأعراب، تروا أن كل من له مسكة من عقل، يدرك ـ بهذه المسكة الفطرية الأولى ـ أن الحقيقة أكبر من العقل، وأن مهمة العقل أن يبحث عنها.

يدرك تاريخ الفلسفة ذلك ويقِرُّ به على طول التاريخ، حتى الماديون من الفلاسفة يقفون أمامه ذاهلين، يمنون أنفسهم بأن يأتي يوم يكتشفون فيه حقيقة الحقائق. وأنّى لهم ذلك. ذلك أنهم يقرون ـ فيما بينهم وبين أنفسهم ـ بأنه لم يحدث أبداً أن توصل العقل إلى معرفة كل الحقيقة، بل قصاراه أن يكتشف بعضاً من زواياها.

لهذا لا يخشى اللهَ أحدٌ كما يخشاه العلماءُ، لأنهم مدركون أنه حقيقة الحقائق، الحقيقة الكاملة التامة، الحقائق كلها مجتمعة. وإذ علموا ذلك، فقد أدركوا أن عقولهم تسبح حول سواحل الحقيقة الكبرى، حسيرةً ومعجبةً في آن: حسيرةً لضعف أدواتها، ومعجبةً من تأمل منتهى الحقيقة، في ثوب منتهى الجمال.

إن عقولاً على هذه القدرة من تأمل الحقيقة ـ وإن كانت لا تحيط بها ـ هي القادرة وحدها على الإقرار بضعفها الجميل، مقابل وقاحة عقول أطفال رأت شيئاً فعرفته، ثم غابت عنها أشياء فأنكرتها.

إن من يؤمن بالاستدلال العقلي ـ وحده ـ ليس مؤمناً بالله، بل هو مؤمن بعقله. إنه مشرك دون أن يدري. ولقد قلت ذلك مراراً فغضب مني عباد العقول. وسوف أواصل قول ذلك، إلى أن تنشق صدروهم من الغيظ.

إن العلماء يعلمون حدود عقولهم فيقفون عندها، أما الجاهلون فيرون كل شيء، ولا يظنون أن شيئاً قادراً على الاحتجاب عن عقولهم. فإذا كانت عقولهم هي المرجع الأخير، فأين الله؟

هنيئاً لك هذا الشرك السعيد يا صديقي.

25: امتحان الصدق:


﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ (المائدة/109).

هاكم المشهد:

الرسل جاثون على ركبهم بين يدي الله العلي الأعلى، يسألهم وهم لا يعلمون.

كيف لا يعلمون؟

إنه يسألهم إن كانوا قد أدوا رسالتهم، كما أمرهم. فلا يعلمون الإجابة. وكيف يعلمون إن كانوا فعلاً قد فعلوا ما به أُمروا؟ إنهم يذكرون فقط أنهم بذلوا ما يرونها استطاعتهم. فهل كانت استطاعتهم هذه التي بذلوها هي كل ما يقدرون عليه؟ وهل هذا هو الذي أراده الله منهم بالضبط؟

إنهم لا يعلمون، حقاً، وليس مجازاً. والذي يعلم الحقيقة ـ كما هي الحقيقة ـ هو خالقُ الحقيقة، وها هو الآن ـ سبحانه ـ وها نحن بين يديه، وها هو يسألنا عما يعلمه دوننا.

إنه الامتحان الرهيب، امتحان الصدق. وفي امتحان الصدق لا يعرف الأنبياء إن كانوا قد صدقوا بما فيه الكفاية، لأنهم لا يعلمون مقدار الكفاية.

إنهم لا يعلمون! تهتف بها ألسنتهم! ولو لم تكن تقول الحقيقة ألسنتهم، لختم الله عليها. لكنها تقول الحقيقة:

إنهم لا يعلمون. والحقيقة أن هؤلاء الرسل الذين لا يعلمون، قد وُفقوا إلى أن يقولوا الحق، في وصف حالتهم.

26: في التثليث:


﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة/116 ـ 118).

بعد ما مضى، يأتي دور السؤال التفصيلي الأعظم لروح الله: "أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ"؟

فيشتد فزع الرسول، ولا يجد ما يقوله سوى التبرؤ من مجرد تصور وجود وقاحة لدى أحد، يمكنه أن يتصور حدوث تصور هذا! أيمكن أن يتصور أحدٌ أن أحداً قادرٌ على أن يقول إن لله ولداً!

وهب أن أحداً تصور وجود وقاحة بهذا المستوى، أفيليق أن يُنسب ذلك إلى روح الله ورسوله الذي ائتمنه على وحيه؟

لا يناسب هذا المقول إلا جوابٌ واحد: الفزع إلى الله منه، وتسبيحه أن سمح بأن يقال شيء كهذا في ملكه، ثم لا يدمدم على كل هذا الملك!

سبحانك، تعاليت، تقدست، تنزهت، أن يُقال عنك هذا: إن كنت قُلته فأنت تعلم أني قلته. وإن كنت لم أقله، فأنت تعلم أني لم أقله. ولكني أذكر أنني قلت لهم ما أمرتني به فحسب. فإن كانوا قد قالوا بخلافه، فإنما قالوه بعد أن رفعتني إليك بعيداً عنهم. لم تشهد عيني، ولم تسمع أذني. والحمد لله أن رفعتني قبل أن يُقال إني ابنك.

إذن فسيدنا عيسى الآن يرى إلى أي مدى قد تعرض للخيانة! إن رسالته ـ وهي أعظم ما يمتلك ـ قد تعرضت من بعده للانتهاك. وما قيمة رسالة تعرضت للتبديل؟ وكيف أمكن هؤلاء أن يبدلوا خبر السماء؟ كيف أمكنهم أن يعرضوني لهذا السؤال المخيف؟

عيسى غاضب جداً وحزين جداً، لكن يبدو أن غضبه يتفوق على حزنه، فلا يلجأ إلى طلب الرحمة لهم، بل يسبح ربه الواحد بطريقة تشي بأنه يطلب لهم العذاب: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".

ولو أراد لهم الرحمة لاستدعى صفتي الرحمة فقال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم"

أما أن يسبح العزيزَ الحكيم، فمعناه أنه يستدعي صفتي القوة.

إنه يطلب لهم العذاب. ولقد استحقوه فعلاً، إذ سبق أن حذرهم بأنه سيعذبهم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، إن أنكروا النبوة بعد المعجزة، إذ طلبوا مائدة من السماء فقال لهم الله:

﴿إني مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة/115).

27: في كيفية وسوسة إبليس لآدم من خارج الجنة:


لقد أُتخمت كتب التفسير بنقل ما لا يصح عن كيفية وسوسة إبليس لآدم، وذهب أغلبها إلى نسبة رواية التوراة ـ المحرفة ـ إلى الرسول أو الصحابة التي تقول:

"وكانت الحية أجمل حيوانات البرية، التي خلقها الرب الإلـٰه. فقالت للمرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، ولكن الله يعرف أنكما يوم تأكلان من ثمر تلك الشجرة، تنفتح أعينكما وتصيران مثل الله: تعرفان الخير والشر. ورأت المرأةُ أن الشجرةَ طيبةٌ للمأكل، وشهيةٌ للعين، وأنها باعثةٌ للفهم، فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت زوجها أيضاً ـ وكان معها ـ فأكل. فانفتحت أعينهما، فعرفا أنهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما مآزر".

والآن دعونا الآن نبين وجوه اعتراضنا على نقل المفسرين لمضمون هذه الرواية:

1ـ هذه الرواية تقرر أن التي أغوت آدم هي الحية، لا إبليس. والمفسرون حين يرغبون في تبنيها، يجعلون إبليس اختفى داخلها، وتسلل من خلالها، إلى الجنة، التي طرده الله منها. ولعمري إن هذه لجرأة على رب العزة قَلّ نظيرها!

2ـ هذه الرواية تخالف منطوق القرآن الحكيم، المقرر أن الذي تعرض لوسوسة الشيطان وإغوائه كان هو آدم، لا حواء. يقول رب العزة: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ (طه/120). ومعلوم أن كل ما ورد من وسوسة إبليس للزوجين ـ بصيغة المثنى ـ يجب رده إلى هذه الآية المحكمة المفسرة، ويمكن الجمع بين الآيات بأن يقال: وسوس إبليس لآدم، فأقنع زوجه، فأكل وأكلت معه. لأن الله لم يقل البتة: وعصت حواء ربها فغوت.

3ـ من هنا فإن آدم هو البادئ بالأكل من الشجرة المحرمة، لقوله تعالى: ﴿وعصى آدمُ ربَّه فغوى﴾(طه/121)؛ ولم يقل وعصت حواء ربها فغوت.

4ـ وعلى ذلك يجب تبرئة أمنا حواء، من الجريمة التاريخية التي أُلصقت بها، والقائلة بأنها هي التي أخرجت آدم من الجنة. بل إن الذي أخرجه هو إبليس، وضعفه البشري، ومعصيته الناتجة عن نسيان العهد، كما يقول في ذلك رب العزة: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزما﴾ (طه/115).

وهكذا يبقى السؤال معلقاً عن كيفية وسوسة إبليس لآدم، وقد كان كل منهما معزولاً عن الآخر: هذا في الجنة، وهذا خارجها؟

ولنا أن نكتفي بتقرير أن لو كان في معرفة جواب هذا السؤال خيرٌ لنا، لأخبرنا به رب العزة في محكم التنزيل، أو لأعلم نبيه به ليعلمنا إياه بحديث صحيح.

28: أين شركاؤكم؟:


﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُون﴾َ (القصص/62 ـ 63)

المشهد من مواقف يوم القيامة، إذ ينادي الله خصوم أنبيائه، الذين أشركوا بالله عباداً، هم الآن على مرأى قريب، وقد صاروا الآن أذل وأخزى، وقد طأطأوا أعناقاً كانت في الماضي لا تطأطئ.

ينادي الله العابدين المشركين يسألهم: أين شركاؤكم الآن؟

وطبعاً لا يمكن أن يكون المقصود ظاهر السؤال، فالمسؤول عنهم حاضرون، يسمعون ويراهم الحشد في الموقف العظيم.

إذن فما المقصود من هذا النداء؟ ما المقصود من سؤال العابدين عن مكان آلهتهم؟ أفليست تلكم هي هذه الوجوه المستخذية الصموت؟

نعم، إنها هي، لكنها ليست شريكة لله في شيء.

أين شركاؤكم؟

لا شركاء، فها هم على حقيقتهم. فهل يبدو هؤلاء شركاء لله؟

هل تبدو هذه السحن متعالية متجبرة كما كانت تبدو للبعض ذات يوم؟

وإذ يصل الحوار إلى هذا المنحنى، يرفع المعبودون السابقون أصواتهم بالحقيقة، الحقيقة التي طالما أنكروها:

ـ يا رب، نحن ظلمنا أنفسنا وغيرنا حقاً، ودعونا المستضعفين لعبادتنا حقاً، لكننا فعلنا ذلك إذ غوينا، فكنا ضالين، تائهين.

ـ أما هم ـ يا ربنا ـ هؤلاء العابدون السابقون فلم يعبدونا، ولم يضلوا، بل اختاروا أن يعبدوا مصالحهم في سجودهم تحت أقدامنا..

ـ إنهم لم يكونوا ضالين، لأنهم لم يعبدونا نحن، بل عبدوا مصالحهم التي بين أيدينا، عبدوا فينا ما رأوه ينفعهم.

ـ في الحق ـ يا ربنا ـ إنهم عبدوا أنفسهم، وما كانوا إيانا يعبدون.

فيا أصدقائي، إن كان هذا المنطق من المعبودين سليماً في العرض والاستنتاج، فيبدو لي أنهم سيكونون ضالين، فيما سيكون العابدون مغضوباً عليهم.

العابدون المستضعفون مغضوب عليهم، والمعبودون المستكبرون ضالون! تعجبني هذه القسمة، فوالله إن الضعف لَشرٌّ كله: ضعف النفس أقصد لا ضعف البدن. سحقاً للأدنياء.

29: المرويات:


المرويات.. المرويات.. المرويات.. كلمة لم تعد بريئة في العقود الأخيرة، خصوصاً في استخدامات "فقهاء الفيس بوك" لها.

سيقولون: نحن نعلم أن كل الأحاديث نُقلت بالرواية. وكلمة "المرويات" استخدمها السلف الصالح مراراً، فما يضيرنا إن استخدمناها؟.

إنهم يقولون هذا، فيما هم يعلمون أننا نعلم ما يقصدون! لقد انزاحت الكلمة عن أصلها المعجمي، في العقود الأخيرة، لكثرة استخدام أعداء السنة لها: فأصبحت "المرويات" الآن مصطلحاً يقصده أعداء السنة، حين يسمون السنة النبوية بهذا الاسم، الذي يسقط الاحترام عن أحاديث رسول الله، ويجعلها مجرد نقولات تاريخية يومية، لا قيمة لها أكثر من قيمة نوادر أشعب، أو مخاريق علي الزيبق.

إنهم الآن يقولون "مرويات" ويقصدون التقليل من احترام الناس للسنة النبوية. وإلا فالقرآن كذلك من المرويات، رواه الصحابة من حفظهم عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنقلوه إلى عهد أبي بكر ثم عمر، ليتم تدوينه. فهل نقول عن القرآن "مرويات" ونحتج بأننا نقصد المعنى اللغوي.

إن للكلمات تاريخاً. وإن تاريخ كلمة "المرويات" لم يعد الآن يرقى إلى منح الاحترام المقصود لمدلول الكلمة. فمن قال عن أحاديث رسول الله "مرويات" شككنا فيه منذ البدء، لأننا نعرف أن من يسمون أنفسهم بـ"القرآنيين" يستخدمون هذا اللفظ اليوم باحتقار، مع أنهم لا يسمون نقولات الشيعة "مرويات".

يبدو أن كلامي بدأ يشير إلى الجهة المستفيدة، أو الجهة المانحة. فمن يدري!