• سياسة
  • 1406 قراءة
  • 12:53 - 26 يونيو, 2019

مصر وورشة المنامة


فهونوا عليكم يا منتقدي موقف مصر


التحليل السياسي

 

غزة في 26 يونيو 2019


ليس خافياً على من يُحكِمُ النظر السياسي فيما حوله، أن استراتيجيات السياسة المصرية الآن. وأستطيع الزعم بأنها ما كانت لتكون غير ما هي عليه، لو أن الرئيس كان شخصاً آخر غير السيسي ـ تتمحور حول استعادة الدولة سيناء.

ذلك أن قوانين الواقع هي ما يحكم متغيرات السياسة، وإن كان قهرها تختلف الاستجابة إليه قليلاً من نظام إلى آخر.

أقول: "قليلاً" لأشير إلى حكم الأيديولوجيا، إن كان للنظام أيديولوجيا. والحق أن الأيديولوجيا قد غابت تقريباً عن التأثير في السياسة المصرية، بعد وفاة عبد الناصر.

ولئن كان المُخَطِّط الاستراتيجي المصري، محكوماً بما قضى به كل الاستراتيجيين المصريين منذ عهود الدولة القديمة، بأن أمن مصر الحيوي مرتبط بتأمين الحدود الشرقية والجنوبية، بصفة خاصة، لما تقرر من درس التاريخ أن كل خطر عسكري على مصر يأتي من المشرق، وضرورة تأمين منابع النيل في الجنوب.

فإذا نظرنا إلى الحدود الشرقية، حيث إسرائيل المحاذية لسيناء، وتربطها بمصر معاهدات عسكرية تحد من وجود الدولة بقوة كافية، لأمكن لنا أن نعرف كيف أمكن للإرهاب أن يحتل سيناء طوال سنوات صعود الإرهاب في عهد أوباما.

لقد استغل الإرهابُ الدعم الأمريكي غير المسبوق في الإقليم، والتسهيلات الإسرائيلية على حدود سيناء، البرية والبحرية، إضافة إلى حكم حماس لغزة، الذراع الفلسطيني للإخوان المسلمين، الذي تؤمن الدولة المصرية أنه يقدم الدعم اللوجيستي للإرهاب..

ولست في طور قبول رأي الدولة المصرية في حكام غزة، ولكني أعرض ما تفكر فيه، وما المصريون مؤمنون به، وإلا فأنا أعيش في غزة، ولا أستطيع تبني قول المصريين في حكامي، حتى لا أعاني أكثر مما عانيت.

أقول: لقد استغل الإرهاب هذا الواقع الجيوسياسي ليحتل سيناء.

والحقيقة أن الإرهاب بالفعل قد احتل سيناء منذ ما قبل صعود مرسي إلى سدة الحكم في القاهرة، ورسخ أقدامه فيها، طوال العام الذي حكم فيه مكتب الإرشاد مصر، وسهل فيه نقل الأسلحة وتخزينها في سيناء.

لقد أصبحت دولة الإرهاب ممتدة ومتواصلة، من ليبيا إلى الصحراء الغربية المصرية، إلى شمال السودان، مروراً بالصحراء الشرقية، وصولاً إلى سيناء. لو صدقنا ما يقوله المخطط الاستراتيجي المصري ـ حاشا لله ـ فإن غزة صارت الخط الأخير والملجأ الآمن، لكل إرهابي يشعر بدنو خطر الدولة المصرية من رأسه.

أما البيت الأبيض في عهد باراك أوباما فقد كان واضحاً أنه متحالف مع الإرهاب، يدعمه في كل مناطق التوتر، في العراق وسوريا وليبيا ومصر، إلى الدرجة التي دعته إلى الوقوف المعلن مع الإخوان المسلمين في مصر.

وقد رأينا كيف أوقع أوباما عقوبات غير مسبوقة على مصر، مع تولي السيسي دفة الحكم في القاهرة، وشن قوات الأمن المصرية هجماتها على معاقل الإرهاب في سيناء.

لقد بلغت الثقة بالنفس وأمريكا لدى جماعة الإخوان المسلمين المنحلة، أن صارت تبشر بقرب التدخل الأمريكي العسكري في مصر، من على منصات إعلامها في رابعة، وتدعو الجيش إلى إعادة السلطة إلى الإخوان المسلمين، ليضمنوا لمصر الأمن في سيناء، ويلجموا الإرهابيين الذين انطلقوا من عقالهم فور إزاحة مكتب الإرشاد عن السلطة في القاهرة.

ولكي يكون لكلامي ذكرى أكثر وضوحاً، دعوني أستذكر معكم الهجوم الإرهابي على قوات الأمن في سيناء، خلال حكم الإخوان، واختطافهم بعض ضباط الجيش، ثم تدخل مرسي الشخصي للإفراج عنهم دون طلقة واحدة من قوات الأمن على الخاطفين "المباركين".

لقد بدت واضحة يومها الثقة البالغة والتناغم المشترك بين الخاطفين وحاكم القاهرة الذي لا يحكم.

فماذا فعل المصريون؟

كان لا بد من إزاحة الإخوان المسلمين عن سدة الحكم. وقد حدث. وخاضت مصر حربها ضد الإرهاب على جبهتي سيناء وليبيا، وعانت طويلاً من الدعم الأمريكي الصهيوني للجماعات الإرهابية، كما ظلت تشعر ـ لا أدري إن كان بالحق أم بالباطل ـ بأن جزءاً لا يُستهان به من معاناتها مرجعه غزة.

لكن مصر واصلت حربها بصبر دؤوب، إلى أن تدخلت السماء إلى جانبها، في لحظة فارقة، فاز فيها ترامب برئاسة البيت الأبيض، وأعلن أن له أجندة مختلفة في الشرق الأوسط، تقضي بوقف دعم الجماعات الإرهابية.

وتلقفت مصر الجائزة، وأحدثت نوعاً من الدفء في علاقاتها الديبلوماسية الباردة مع الدولة اليهودية، تشجعها على الاستجابة لطلب أمريكا بأن تغض طرفها عما يحدث في سيناء.

وهكذا أمكن لمصر ـ في فترات متباعدة ـ أن تزيد من حجم قواتها في سيناء. وهكذا بدأت الحرب على الإرهاب تدخل طوراً جديداً.

والآن بعد كل هذه النجاحات في استعادة سيناء إلى حضن الدولة، يدعو ترامب مصر للمشاركة في ورشة المنامة.

لقد دعاها من قبل إلى القبول بالتنازل عن جزء من سيناء لتمرير صفقة القرن، فأبت حكومة مصر الاستجابة. ويبدو أنه ذكرها بأنه كان من الممكن لولاه، أن يوجد في القاهرة حكمٌ يقبل بهذا؛ ملوحاً بما كان من حكم الإخوان المسلمين. لكن حكام مصر الجدد استطاعوا إقناعه بأن ذلك لم يكن ليحدث حتى على يد الإخوان المسلمين، لسبب بسيط هو أنهم ـ وأي حاكم يشبههم ـ كان ليزول في نفس الليلة التي يعلن فيها موافقته على التخلي عن شبر من تراب سيناء.

وقبلت الإدارة الأمريكية هذا الرفض على مضض، وعدلت من خططها في غزة، واكتفت بأن وعدت غزة بالنمو الاقتصادي وتناست وعودها بتوسيع مساحتها في سيناء.

والحق أن حكام غزة الحمساويين لم يكونوا متحمسين للتوسع في سيناء، وإن كانوا ينظرون بعين المقت إلى حكام القاهرة الجدد.

وعلى الصعيد الآخر، أحدثت مصر شيئاً من الدفء في علاقاتها مع حكام غزة ـ الذين تعرف أنهم إخوان مسلمون ـ بما ساعد على تعقب الإرهابيين المتسللين من وإلى غزة.

وتواصل بذلك نجاح عودة الدولة إلى سيناء، وأقنع السيسي إسرائيل بأنه لا يشكل خطراً عليها ـ وكان في ذلك ثعلباً سياسياً لم يقدره الإخوان حق قدره ـ فتنامت قوة الجيش في سيناء، بما لم يحسب له الإرهابيون حساباً. ثم جاءت في خضم كل ذلك دعوة ترامب لمصر للمشاركة في ورشة المنامة.

فماذا فعلت مصر مرة أخرى؟

قررت مصر أن تلبي الطلب ظاهرياً، وتفشل ما يمكن أن يتمخض عنه الاجتماع من إضرار بالقضية الفلسطينية ـ وكذلك فعلت الأردن لأسباب مشابهة ـ إن حضرت واستمعت لما يُقال، ثم قالت بأن لا أحد يستطيع أن يفرض على الفلسطينيين حلاً لا يرتضونه، وخرجت هي والحاضرين دون خسائر، مصرية أو عروبية.

فإن نظر الفلسطينيون إلى موقف مصر وفق ما قلت، تفهموا أن لو لم تفعل مصر ذلك، لتهددت كثيرٌ من جهود مصر لهزيمة الإرهاب في سيناء وليبيا والسودان.

كلمة أخيرة:

لن تقامر مصر بفلسطين تحت أي حكم، لكن على الفلسطينيين أن يدركوا أن مصر لن تكون فلسطينية أكثر منهم. والفلسطينيون ـ على المستوى السياسي ـ اليوم لا يبدون فلسطينيين للأسف.

فهونوا عليكم يا منتقدي موقف مصر. وانظروا إلى الخشبة في أعينكم.