قليل من الفلسفة


التاريخ إرادة القوة


 

القانون هو حق الطبيعة. وقد قضى حق الطبيعة بأن للنسر أن يفترس العصافير.

لقد أصبحت طروادة يونانية بعد سنوات من القتال الطامع والفتح.

ثم سيطر الرومان على إيطاليا ووحدوها فصارت لهم، من دون القبائل المهزومة.

ثم سيطروا على العالم ونظموه فصارت قوانينهم هي الحق، وصار ما سوى حضارتهم بربرية متوحشة.

لكنهم حين تحضروا، أحبوا أن يزينوا قوتهم بشيء من جمال الحق، فزعموا أنهم من سلالة الناجين من حريق طروادة، ليسوغوا لأنفسهم ما حققه السيف من هزيمة اليونان والسيطرة على كل إنتاجها المادي والثقافي والحضاري.

الحق هو القوة، لكنه في مرحلة تالية يزين نفسه بالشعار، دون أن ينسى أن يخفي تحت رداء الحضارة السيف المسنون.

قلت هذا مقدمة لنقد المقولة الشائعة التي تقول: بأن الحق قوة، أما القوة فليست حقاً.

فلو تأملنا المقولة قليلاً، للاحظنا ـ من وراء هذا الدخان ـ في الواقع الدنيوي على مدار التاريخ، أن مقولة: «الحق هو قوة»، تؤول إلى نفس مقولة: «القوة حق».

كيف؟ 

أولاً: حين أقول: إن هذا هو ما يحدث في الدنيا والواقع؛ فإنما انا أشير إلى ما يأتي:


أولاً/1: حين تسيطر أمة على أمة بقوة القوة، تصوغ سيطرتها في قوانين.

أولاً/2: وهذه القوانين التي صاغتها القوة، تصبح ــ بفعل الزمن ــ واقعا متوارثاً معترفاً به من قبل الخاضعين، لا يمكن تغييره.

أولاً/3: فأول شخص سيطر على قطعة أرض في تاريخ البشرية، إنما انتزعها من أرض المشاع (أرض الجماعة) بالقوة. ولو كانت الجماعة قوية لاستعادتها منه في زمن قياسي.

أولاً/4: لكن الجماعة تقبلت حكم الواقع (القوة) إلى أن صاغت قوانين الملكية، فسجلتها ضمن ملكيته الخاصة.

أولاً/5: ثم ورثها أبناؤه من بعده، حقاً لا ينازعهم فيه أحد، بقوة القانون.

ثانياً: مثال آخر من حق القوة في تاريخ الأمم:


ثانياً/1: حين سيطر العرب على الدولة الفارسية، صاغوا القوانين بما يضمن لهم ديمومة السيطرة.

ثانياً/2: ثم حل زمان صار المسلمون لا يقبلون بأن يثور الفرس الذين أسلموا، على الدولة العربية، حتى لو أعلن الفرس (المتمردون) أنهم يرغبون في تحقيق نفس شعار العدالة، الذي به سيطر العرب على بلادهم.

ثانياً/3: الدين المتبع هنا لا يشجع زوال قانون القوة، فيصبح بمرور الوقت حقاً. ويصبح من ثم هذا الحق ديناً.

ثانياً/4: وفي سبيل تكريس ذلك، لاحظوا كم يتمسك المتدينون بالخليفة، الذي قهرهم بالسيف على طاعته.

ثالثاً: مثال ثالث المستقبل الآسف:


ثالثاً/1: فلسطين امتلكها الإسلام بالفتح. ولولا دخول جيوش أبي عبيدة لما انتشر الإسلام في فلسطين. وحتى لو انتشر لما حكم.

ثالثاً/2: وكانت من قبل في أيدي سكان يخضعون للحكم الروماني.

ثالثاً/3: هذا الواقع لا يهمه إن كان اليهود قد سكنوا هنا ذات يوم أم لم يسكنوا.

ثالثاً/4: فحتى لو سكنوا هنا وأقاموا دولة لهم قبل الإسلام، فقد انتزع منهم ذلك الرومان. كما انتزع المسلمون ذلك الحق من الرومان.

ثالثاً/5: فالقانون الدولي اليوم لا يمنح الرومان الحق في فلسطين، لمجرد أنهم حكموها قبل الفاتحين المسلمين.

ثالثاً/6: لكن لو احتلت إيطاليا الرومانية فلسطين اليوم من اليهود، ثم استمر احتلالها قرنا على سبيل المثال، فسوف يعود القانون إلى استذكار أن لها الحق في ملكية فلسطين، بسبب الأقدمية. والحق أنه لولا القوة لما اعترف أحد بأحد.

ثالثاً/7: وكذا الأمر لو حرر العرب فلسطين، فسوف يشجبهم المجتمع الدولي، ويرفض الاعتراف بعروبة فلسطين. فإن مر قرن وعجز العالم عن طرد العرب وإعادة اليهود، أقر القانون الدولي بعروبة فلسطين، باعتبار الأمر الواقع. وللفلسطينيين من ثم أن يزينوا حقهم بالأقدمية.

ثالثاً/8: ولا يمنح القانون الدولي اليهود ـ حتى الآن ـ الحق في أن يقيموا لهم دولة هنا، على أنقاض السكان الذين أورثتهم الأرضَ دولةُ الإسلام الفاتحة، التي ورثت الأرض عن دولة الروم... إلخ.

ثالثاً/9: ينتج من كل ذلك، أن القانون في نهاية المطاف يعترف ـ بعد وقت طويل نسبياً ـ بالواقع الذي فرضته القوة على الأرض، ويستنكف عن بحث دعاوى قديمة لم تستطع الثبات بالقوة.

ثالثاً/10: إذن فالقانون هو قوة القوة مصوغة في مواد مهمتها المحافظة على الواقع، وتحارب تغييره بالقوة. فإن تم تغييره بالقوة، اعترفت به بعد زمن.

ثالثاً/11: وهذا يدل بوضوح على أن فلسطين إن لم تحررها القوة في زمن قريب، فستصبح يهودية، رغم أنوفكم جميعاً.

ثالثاً/12: لا مجال هنا للكلام على رأيي في الموضوع، وإنما الكلام هنا عن رأي الطبيعة.

رابعاً: خلاصة الخلاصات:


يقول نيتشه:

"إن جماعة من الوحوش الكواسر، شقراء البشرة، جماعة من الغزاة السادة، بكل ما لها من أنظمة حربية وقوة منظمة، تنقض بمخالبها المخيفة على طائفة كبيرة من الناس، ربما فاقتها من حيث العدد إلى حد بعيد، لكنها لم تتخذ بعد نظاما يحدد أوضاعها. ذلك هو أصل الدولة.