استدراكاً على تأملاتنا في سورة البقرة103


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴿267﴾

انظر كيف تنفق مما ليس ملكك، فيجعله الله منك، ويعوضك عنه، ويمدحك به. الكل منه فضلاً، لكنه ينسبه إليك فعلاً، ثم يُعطيك اللهُ العطاء يوم القيامة، ويكرمك فيسميه جزاءً وثواباً، كأنك أنفقت مما رزق نفسك! فسبحانه يوسعك بتوفيقه بِرّاً، ثم يملأ العالمَ منك شكراً.

لمثل هذا ينادي الله الذين آمنوا، كما خاطبهم حين قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران/92) ففي هذه الآية قدم المواعظ وعرض العواقب، ثم بَيّنَ النهايات. وفي آية آل عمران، بَيّن النتيجة ثم أمر بالعمل. وكل هذا زيادة في البلاغ، وتنويعاً للأساليب، ورفعاً للملل من نفوس المخاطَبين.

بمقدار ما هي جميلةٌ النهاياتُ، ينبغي أن تكون الأسبابُ والمقدمات جميلةً ـ تقول الآية ـ فلا يأتي بالجميل قبيحٌ أبداً. ولا يسمع النداءَ الجميلَ فيلبّيه إلا المؤمنون. فيا أوليائي الذين اجتبيتُ، أنفقوا من أحسن ما لديكم، لأعطيكم أحسن ما لديَّ، في الفردوس الأعلى، تحت عرشي.

والحق أن زمن التنزيل قد شهد بشراً كهؤلاء، ينزل على قلوبهم كلام الله طازجاً، فيتلقفونه متلهفين، ويطبقونه راضين، فما ينفقونه أحب إليهم مما يستبقونه، لأنهم يعلمون أن ربهم يحب ذلك. فهذا أبو طلحة الأنصاري، زوج أم سُليم الرميصاء ـ رضي الله عنهما ـ من أكثر أهل المدينة بساتين، ومن أقربها إلى قلبه بستانٌ قريب من المسجد النبويّ، يُسَمّى «بَيْرُحَاءَ»، يأتي إلى رسول اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: "يا رسول الله، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّه،ِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ" (متفق عليه).

وواضح من هذه الصورة المشرقة، أن أبا طلحة لم يكتف بالإنفاق مما يحب، حتى أنفق أفضل ما يحب. ولقد كانت تلك أفضل صور النفقة، لأن صاحبها زاد على ما أمر الله به من الخير، مما يجعلنا نظن أن الله زاد له الأجر يوم القيامة. وليس معنى عرضنا لهذا الحديث أننا نتوقع من الناس اليوم أن ينفقوا أفضل ما يحبون، فذاك جيل لا يتكرر. ولكننا نتوقع من الغني أن ينفق مما يحب، فليس كأبي طلحة من ينفق أفضل ما يحب.

ومقابل النفقة الطيبة تبرز لنا في الآية صورة النفقة الخبيثة. والمقصود بالنفقة الخبيثة هنا نفقتين: نفقة ينفقها مؤمن يرجو بها وجه الله، لكنه أضعف إيماناً مما تطلبه الآية؛ ونفقة ينفقها منافق يبتغي بها وجه الناس.

فالمنافق تحترق أعماله ومعها نفقته كما احترقت جنته، ويدخل جهنم، لأنه كافر يعلم الله كفره، وإن خفي ذلك على المؤمنين. أما المؤمن فيرى عاقبة إنفاقه القليل درجةً متواضعة في الجنة، خبيثة حين يقارنها بدرجات الذين أنفقوا الأفضل مما لديهم، أو أفضل ما لديهم.

فلكي يحصل لكم الفوز يا أوليائي ـ يقول من أنزل التنزيل ـ فأنفقوا من أفضل ما منحتكم، وضعوا أنفسكم في محل من تمنحونه النفقة من المساكين، كي لا تضطروا إلى أن تنالوا من الثواب، بقدر ما منحتم من الصدقة؛ وإلا أفتحبون أن تنالوا درجات متواضعة في الجنة، فيما ترون غيركم في القصور العالية والجنات الواسعة؟ فاحرصوا على اللحاق بهم، لأن الله يحب لكم الأفضل. أنفقوا مما أعطيتكم في الأرض، لأمنحكم فوقه زيادة الزيادات عندي في السماء، ولا تشبهوا المنافقين الذين ينفقون رياءً وسمعةً، ولا تشبهوا ضعاف الإيمان، الذين يهمزهم الشيطان كلما أرادوا الإنفاق، فينفقون الخبيث.

وقوله: ﴿تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ مجاز يُخرج الكلام عن حقيقته إلى صورته التمثيلية، حيث تُخيّل لنا الآيةُ الفقيرَ يتناول الصدقة المعيبة مغمضاً عينيه، كي لا يرى ما بها من سوء. والمجاز هنا من نوع الاستعارة التصريحية، حيث تستعير اللغةُ إغماضَ العين للتساهل، على تقدير حذف المؤاخذة التي هي المشبه، والتصريح بالمشبه به الذي هو الإغماض. والمعنى: إلا أن تتساهلوا في قبوله. وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كي لا يرى ذلك. فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضاً.

ومعوم أنه حيث كان الإنفاق رياء، فسيكون من الرديء: إذ كل المقصود أن يُقال: لقد أنفق. ولقد قيل. وأنتم تعلمون جزاء من يُقال له هذا يوم القيامة.

إن هذه الصورة التمثيلية، للفقير يغمض عينيه وهو يتناول صدقة الباخل المُقَتّر، تحيلنا إلى رؤية ما في قلب المسكين من خوف، هو الذي أغمض عينيه، خشية أن يُرى فيهما التأفف، فيقطع الباخل صدقته. فليت شعري، أي صَغار أشد من أن تغمض عينيك، أن يرى مستكبرٌ كراهيةَ فيهما ما لا يعجبه، فترجع إليه يده بما قدم ممسكاً!

فلله بغزة اليوم عائلاتٌ بكاملها يَمُنُّون عليها ـ من رزقها المقطوع ـ بالقليل القليل، ثم يتقاضونها عليه شكراً علنياً متواصلاً. فيا عباد الله، أأغماضُ أعينٍ أشد من هذا؟

وفي اختتام الآية بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ بيانٌ بقول الله في الحديث القدسي: "إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفّيكم إيَّاها: فمن وَجَدَ خيرا فليَحْمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ" (صحيح مسلم) فأنا غني عنها، مستحق لعظيم الحمد المتكرر، إذ منحتكم نعمتي ثم جزيتكم عنها الخير العميم.

والله أعلم.

اللهم أَقِل عثراتي في تفسير كلامك، فإنما أنا مخلوق يفسر كلاماً أزلياً. وهيهات هيهات.

صباح الخير يا أصدقائي.

يُتَّبع.