من مِشْكاةِ النبوّة

حديث بدء الوحي

 

قال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري أمير المؤمنين في الحديث:

 

«حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ. ح وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ أَنَّهَا قَالَتْ: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ الْوَحْيِ، الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ: فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ».

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «فَكَانَ يَأْتِي حِرَاء، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ـ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا. حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ».

قال النبي لخديجة ما تنقله عائشة عليهما سلام الله: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾»

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي»؟

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ».

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ ـ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا ـ وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْإِنْجِيلِ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ. وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ. فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى»؟

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا رَأَى. فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى. يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعاً، أَكُونُ حَيّاً، حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّراً».

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ»([1]).

أولاً: في الإسناد:

هذا الحديث سمعه البخاري من طريقين، كل منهما يوصل إلى الإمام الفقيه الثقة الحافظ الثبت محمد بن شهاب الزهري:

1: الطريق الأولى: حدث بها البخاري سماعاً من يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبتُ الناس فيما يحفظ وينقل عن اللَّيْث بن سعد الإمام المعروف، الذي قال فيه الشافعي رضي الله عنه: "الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه ضيعوه".

فيحيى ينقل مما سمعه من الليث، ما نقلهُ الليثُ عنعنةً عن عُقَيْلٍ، الذي هو الثقة الثبت "عُقَيْلٍ بن خالد بن عقيل الأيلي، مولى عثمان بن عفان". وهذه الصيغة من العنعنة إن نقلها إمامٌ غير مدلس كالليث أفادت السماع.

وقد نقله عقيل عن محمد بْنِ شِهَابٍ الزهري، بنفس طريقة العنعنة التي أفادت السماع.

«ح وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ»..

2: الطريق الثانية التي تبدأ بالرمز (ح) "وتعني: أتحول إلى". وترمز إلى انتقال البخاري إلى طريق من الإسناد أخرى، تُحيل إلى الزهري الذي انتهت إليه الطريق الأولى، فتقول: «وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ»، أي: أنه سمع ذلك منه، وعبد الله بن محمد هذا هو "عبد الله بن محمد بن جعفر بن اليمان الجعفي البخاري الثقة الحافظ". الذي نقل عن عبد الرَّزّاق. سماعاً مباشراً منه.

وعبد الرزاق هذا هو: "عبد الرزاق بن نافع بن همام الحميري الثقة الحافظ". الذي حدث سماعاً من مَعْمَرٌ، الذي هو: "معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي، البصري مولى المهلب بن أبي صفرة". وهو ثقة ثبت فاضل.

ومَعْمَرٌ هو الذي نقل لنا هذا الحديث من كلام الزهري، نقله معمر بصيغة الجزم (قال) عن ابن شهاب فقال: قال ابن شهاب. ولا يقول هذا حافظٌ غير مدلس ثقة ثبت إلا كان سمعه منه.

فالآن يتحد الطريقان عند ابن شهاب الزهري ـ رحمه الله ـ الذي يقول: «فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا».

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: وعروة هو ابن الزبير، التابعي الطاهر أخو عبد الله ابن الزبير الصحابي الكريم ـ رضي الله عنه ـ وأمهما أسماء بنت أبي بكر، فعائشة الصديقة بنت الصديق أُمي وأُمُّكم وأمُّ كل من آمن بالله ورسوله، هي خالتهما.

فكان عروة وعبد الله يدخلان عليها ويسمعان منها.

وقد كان عبد الله يُدلّ على خالته أم المؤمنين بما تراه ولدها، فربما غضب من كثرة إنفاقها على الفقراء ـ أيام كان أمير المؤمنين ـ فخرجت منه كلمة أغضبتها، فحلفت ألا يدخل عليها، فكان يجلس ببابها يبكي ويستعطف أياماً، حتى أذنت له فعاد. وكفَّرْت عن يمينها مراراً كثيرة وكانت تبكي لذلك. رضي الله عنها وعنه وسلام على الأحبة.

وللتنويه أقول أن ليس هذا الحديث من حديث هشام بن عروة عن أبيه، بل هو من حديث الزهري عن عروة. وكنا قد تكلمنا في حديث سابق عن طريق هشام بن عروة عن أبيه، بما لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ثانياً: في الشرح:

قالت عائشة ـ الصِّدّيقةُ بنتُ الصِّدّيق، حبيبةُ رسول الله في الدنيا ورفيقته في الجنة، أُمُّنا وأُمّ كلِّ مؤمنٍ إلى يوم القيامة: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ الْوَحْيِ، الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ: فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ».

فقال العبد الفقير: تقول أُمُنا عائشة عليها سلام الله، فتخبرنا بكلامها ما قاله رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكلامه: بأن بوادر الوحي كانت قبل نزول جبريل ـ عليه السلام ـ على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغار حراء، قبل أن يصير عندنا نحن البشر رسولَ الله. وإلا فهو رسول الله وآدم منجدلٌ بين الماء والطين. وهذه البوادر هي الرؤيا الصادقة: أي أحلام الليل التي تتحقق كما رآها، دون تعبير أو تفسير أو تأويل.

فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى في النهار ما رآه في الليل كما هو. وليس المقصود أنه كان يرى في منامه كل أحداث اليوم، بل يرى أشياء لها علاقة بالغيب، مما سيكون مما له علاقة بما سينزل عليه من السماء. أي: أشياء مما سيرى في الصباح. وليس كل الأشياء. مثال ذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو رأى رجلاً في رؤياه، لأمكن أن يراه صباحاً هو بذاته.

وهذا معنى قول أُمِّنا عائشة عليها سلام الله: «فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»؛ أي: مثل نور الشمس أول طلوعه.

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «فَكَانَ يَأْتِي حِرَاء، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ـ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا».

وقال العبد الفقير ابنها: غار حراء معروف. فكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يصير لدينا رسولاً، قد حَبّبَ إليه الله  الاختلاء فيه، فيتحنث وحيداً هناك.

وقول النص: «وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ»، مُدْرَجٌ من كلام الراوي محمد بن شهاب الزهري؛ يشرح معنى الَتَّحَنُّث الذي ذكرته أُمّنا عائشة. قال ذلك الحافظ في الفتح، وغيره.

فقول الزهري: «اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ» يقصد به الكثرة. وهو ما فهمه الزهري من كلام أُمّنا عائشة. قال ذلك الحافظ في الفتح، ونقله عن الكافة من أسلافه العلماء من المحدثين واللغويين. رحمه الله، ورحمهم، ورحمنا برحمته إياهم جميعاً. فلعلهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

تقول أُمّنا عائشة عليها سلام الله: «وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا».

ويقول العبد ابنها: أي: يأخذ معه من الزاد، ما يكفيه ليالي التحنث، ثم يرجع إذا ما انتهى ذلك إلى زوجه أُمِّنا وأمّ كلِّ مؤمن، سيدةِ نساء العالمين: خديجة ـ عليها سلام الله ـ فتزوّده بالزاد مرة أخرى، ليعود إلى تَحَنُّثِهِ.

فلله امرأةٌ تُعين زوجها، على ما به من شوقٍ إلى ما يُحَدِّثُه قلبُهُ؛ فلا تضجّ، ولا تشكو عيناها ولا لسانها، ولا يحزن قلبها ـ لما ألقى اللهُ فيه من خير ـ ولا تطالب زوجها بحقوق امرأة يغادرها الليالي ذات العدد، بل تساعده على ما في قلبه من شوقٍ، أرى ـ والله ـ أنْ قد كان شيءٌ منه بقلب أُمّنا خديجة بنت خويلد بن عبد العزّى، المرأة التي اختارت الفتى اليتيم من بين السادة، فخطبته لنفسها أنْ تسبقها إليه أخرى، وقد علم قلبُها بعض ما في قلبِهِ، مما ترى أثره على وجهه وفي سيرته.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ»([2]).  

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: والقصب: اللؤلؤ.

فقول أُمّنا عائشة عليها سلام الله: «حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ»:

«حَتَّى»: هنا هي التي لانتهاء الغاية، كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر/5) أي: إلى طلوع الفجر. فكأن قد قالت أُمُّنا: «إلى أنْ فَجِئَهُ الْحَقُّ».

وقولها: «فَجِئَهُ الْحَقُّ»، رُوِيَ عنها هكذا بكسر الجيم: "فَجِئَهُ"، ورُوِيَ بفتحها "فَجَأَهُ".

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: وهو من نطق أُمِّنا في المرتين: تنطق بالكلمة وهي تروي، فربما سمعها راوٍ مرة تقول: «فَجِئَهُ»، وربما سمعها راوٍ غيره تقول: «"فَجَأَهُ». وهذا أولى من قولنا إن الكلام من سماع الراوي ينقله بلغته. ولقد يمكن أن يكون كذلك، ولكن لا نلجأ إليه، حتى يتعذّر حمله على غيره.

قال مولاي النووي ـ قدس الله سره ـ وهو من فحول اللغة والحديث: "وقولها: «فَجِئَهُ الْحَقُّ»، أي: جاءَهُ الوحي بغتةَ؛ فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن متوقعاً للوحي. ويُقال: «فَجِئَهُ» بكسر الجيم وبعدها همزة مفتوحة؛ ويُقال: «فَجَأَهُ» بفتح الجيم والهمزة: لغتان مشهورتان حكاهما الجوهري وغيره"([3]).

وقولها: «وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ»: أي نزل عليه الوحي خلال وجوده في غار حراء.

وقولها: «فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ»:

أي: فنزل عليه جبريل من السماء، فأمره بأن يقرأ.

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: وأمر جبريل لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقرأ في معناه أقوال عدة، المختار منها ـ عندي ـ ما رواه ابن إسحق في السيرة، من أنه أَمَرَهُ بأن يقرأ مما في يده من "نمط من ديباج"([4])، أي: قطعة قماش من حرير، مكتوب فيها الآيات النازلة. قال ذلك الحافظ في الفتح ونقله عن شيخه سراج الدين البلقيني رحمهما الله([5]).  

وقولها: «فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ»:

في هذه القطعة تصريح من أُمّنا عائشة عليها سلام الله أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو من حدثها بهذا الحديث، من حيث أن قوله: «فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ». هو اللفظ الذي قاله رسول الله لعائشة، يحكي لها ما قاله لجبريل، في تلك اللحظة من الروع. ولا يُحتمل أن تكون أُمّنا عائشة قد سمعته من غيره، كأمنا خديجة مثلاً: فهي قد ماتت وعائشة صغيرة طفلة.

وإذن فقد أجاب محمدٌ الأُمِّيُّ بنُ عبد الله بنِ عبد المطلب بن هاشمِ بن عبد مناف بنِ قصيّ بن كلاب، من قريش المُضَرِيَّةِ من مَعَدِّ بن عدنان من سلالة إسماعيل ـ رسولِ السماء إلى الأرض ـ مذهولاً ومتعجباً في آن، فقال: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ».

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: و«ما»: نافية. والمعنى: لست قارئاً فأنا أُمّيُّ لا أقرأ، فكيف أقرأ([6])؟

ثم واصل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ما أخبر به أُمّنا خديجة فقال: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾».

وفي قوله: «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ»:

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: قوله: «غَطَّنِي»: عَصَرَنِي وضَمَّني. قال مولاي النووي قدس الله سره: "يُقال: غَطَّهُ وغَتَّهُ وضَغَطَهُ وعَصَرَهُ وخَنَقَهُ وغَمَزَهُ؛ كله: بمعنى واحد"([7]). و«حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ»، الجُهد: الغاية والمشقة. وتلفظ بفتح الجيم وضمها: الجَهد والجُهد: الشدة([8]). والمعنى: ضمّني بقوة حتى أوشكت على الاختناق.

وفي قوله: «ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ»: قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: «أَرْسَلَنِي»: أطلقني. والمعنى: أطلَقَني بعد أن أوشكتُ على الاختناق، فأمرني ـ مرة أخرى ـ بأن أقرأ، فقلت: لست قارئاً، ولا أستطيع، فأنا أُمّيُّ لم يتعلم قراءة ولا كتابة. وصدق الله إذ قال: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت/48).

وقال العبد الفقير إلى رحمة مولاه في قوله: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، نفس ما قلناه في المرة الأولى. وكذلك هو قوله: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي»؛ إلا أنه تلى ذلك قول الملك جبريل بعد أن أطلق نبي الله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق/1ــ 5).

أي: اقرأ مستعيناً باسم ربك، وعلى ذكره، مستحضراً عظمته: ربك الذي خلق كل شيء، وخلق الإنسان من علق وهو الدم الجامد، كأنه يقابل بين عظمة الرب وحقارة العبد.

وقد جرت العادة أن تكون القراءة من كتاب، وعليه فما يتبادر إلى الذهن أن يكون الأمر بها، إنما هو أمرٌ للرسول بأن ينظر في كتاب، ليقرأ منه. لكننا لم نجد في الأخبار، أن قد كان في يد جبريل، عليه السلام صحيفة، حين نزل يأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمر الله، إلا خبراً من رواية ابن إسحق عن عُبَيْدِ بِنِ عُمَيْرٍ، المُخْتَلَف في صحبته، وبالتالي المختلف في حديثه: أهو موصول أم مُرْسَل.

فإن حكمنا بأن عُبيد بن عمير ليس صحابياً، فما رواه ضعيف. وقد قال البخاري إنه صحابي أدرك الرسول صغيراً، فيكون حديثه في رأي البخاري صحيحاً. وكفاك بقول أمير المؤمنين في الحديث حجة.

وبعيداً عن كل هذا الجدل، في صحة ما رواه عبيد عن الرسول، يمكننا الافتراض بأحزم الأقوال، والحكم بإرسال حديثه، ليبقى لنا من كل هذا الكلام أن عبيداً تابعيٌّ كبير، أكبر من كل أصحاب ابن عباس ـ مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم ـ فنقبل بكلامه تفسيراً موقوفاً عليه. ولطالما قبلنا بتفاسير من عكرمة ومجاهد وسعيد، واعتبرناها أقوالاً راجحة، لما ظَنَنَّاهُ من احتمال تَلَقّيهم إيّاها عن شيخهم ـ حبر الأمة رضي الله عنه وأرضاه ـ أو لقربهم منه.

والحاصل، أن ما يَتَرَجَّح ـ عندي ـ في معنى قول جبريل لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: ﴿اقْرَأْ﴾، هو أحد احتمالين:

1: فإمّا أنَّهُ كان لدى جبريل ـ عليه السلام ـ ديباجٌ فيه كتابة ـ كما يقول عبيد بن عمير ـ يعرضه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ ليقرأ منه.

2: وإمّا أنَّ جبريل قال لرسول الله: ﴿اقْرَأْ﴾ على سبيل التَّنْبِيه، كما تقول لمن تريد أن يستمع إليك وهو لاهٍ عن خطر ما ستقوله له: «اسمع»؛ فتُهَيِّئهُ به لأن يستمع منك لما تريد قوله، بمزيد الاهتمام.

وهذا التأويل الأخير نقله الحافظ في الفتح، عن شيخه سراج الدين البلقيني([9]). وهو أحبُّ إليَّ، لأن جبريل ـ عليه السلام ـ كان يعلم، من علم ربِّهِ، أنَّ محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقرأ. فَيَبْعُد أن يأمره بأن يقرأ من كتاب. والله أعلم.

وقيل كلامٌ غير هذا، لكنه لا يستحق أن ننقله.

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: "زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي».

وقال ابنها العبد الفقير إلى رحمة مولاه: قولها: «فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ»: الضمير في «بِهَا» يعود على الآيات التي نزلت. و«البوادر» من الإنسان وغيره: اللحمةُ التي بين الَمنكبِ والعُنقِ، تضطرب عند الفزع. ومنه قول الشاعر حاتم:

                    وجاءَتِ الخَيْلُ مُحْمَرَّاً بَوادِرُها

                                        بالماءِ تَسْفَحُ من لَبَّاتِها العَلَقُ([10])

والتعبير من المجاز المرسل: إذ ذكر الجزء وأراد الكل. فالعلاقة جزئية. إذ كله كان يرتجف؛ ولا ترتجف بوادر المرء حتي يرتجف جسمه.

وإذن فبعد انكشاف الوحي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد نزلت الآيات على قلبه فحفظها للتو، وسمعتها أذناه؛ رجع بها يرتجف أشد الارتجاف.

 قولها: «حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي»: «حَتَّى» هنا هي لانتهاء الغاية، بمعنى: «إلى أن». و«زَمِّلُونِي» من الرباعي «زَمَّلَ». قال صاحب المصباح: "زَمَّلْتُهُ بثوبه تزميلاً، فتزمّل، مثل: لَفَفْتُهُ به فَتَلَفَّفَ به"([11]).

فظل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرتجف خلال رحلة عودته من حراء، حتى انتهى إلى البيت، فدخل على أُمّنا خديجة ـ عليها سلام الله ـ فقال: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي»، أي: "غَطّوني بالثياب ولفّوني بها([12]).

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ «وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».

 فَقَالَتْ لَهُ أُمنا خديجة عليها سلام الله: «كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ».

وقال ابنها العبد الفقير إلى رحمة مولاه: في خطابه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأُمِّنا خديجة عليها سلام الله: «زَمِّلوني» بصيغة الجمع، تعظيماً لها، وقد ملأ احترامها عليه آفاق قلبه، حتى لم يذهله الروعُ عن ذلك، فلم يقل: «زَمِّليني». بأبي هو وأمي ما أَرَقَّهُ وما أَلْطَفَهُ وما أجمله!

قالت أُمُّنا عائشة عليها سلام الله: «فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي»؟

فأعادت أمنا عائشة عليها سلام الله صياغة الحدث، بنفس المستوى من التعظيم لأُمّنا خديجة عليها سلام الله، فقالت: «فَزَمَّلُوهُ». ولم تقل: فزَمَّلَتْهُ.

وإذن فقد لَفَّفَتْهُ أُمُّنا خديجة ـ عليها سلام الله ـ في الفراش، وهدأت من روعه، حتى ذهب عنه الخوف ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهدأ بالُه. فقال: «يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي»؟

ثم أتمت أُمُّتا عائشة ـ عليها سلام الله ـ الخبر فصاغته بلغتها فقالت: «وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ».

ثم نقلت أمنا عائشة ـ عليها سلام الله ـ ما قال، فقالت: «وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».

ولا ينطق الخائف المرتعد إلا مع هدوئه، وأمُّنا خديجة ـ سلام الله عليها ـ جالسة عند رأسه، تمسح وجهه بالماء البارد، كما ورد الصحيحين.

فكأن قد قال لزوجه: أي شيء حصل لي؟ أترينني وقد جُننت، وهذا الذي جاءني يقرئني كان تابعي من الجن، فصرتُ ممسوساً؟

فَقَالَتْ أُمنا العظيمة لرسول الأمة، بكامل الثقة، لما تعلمه من خلقه، فصاغته في كلماتها الخالدة وقالت: «كَلَّا، أَبْشِرْ».

فنفت كلَّ احتمال لأن يكون زوجها قد أصيب بلوثة في عقله. ثم بَيّنت له لم تقول ما تقول، كأنها تنظر من وراء سُدُفِ الغيب، إلى هذا العظيم الذي اختارته من بين كل الناس، فقالت: «فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً».

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ مَن لو أقْسَمَ علَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»([13]).

فكان لأُمّنا خديجة ـ عليها سلام الله ـ من الكرامة عند الله، أن أجرى هذا القسم على لسانها، لِيَبَرَّ به لها مولاها، وقد سبق أن اختارها زوجاً لأفضل الخلق. فأفضل الخلق من الرجال يتزوج أفضل الخلق من النساء على الإطلاق.

                         تلك المكارمُ لا قعبان من لبنٍ

                                                    شيبا بماءٍ فعادت بعدُ أبوالا

ثم بينت أُمُّنا خديجة ـ عليها سلام الله ـ لم لا يخزيه الله أبداً؟ ولم هي واثقة من ذلك حتى تقسم عليه باسم الله. وليس قَسَمُ صِدِّيقةٍ كقسم سائر النساء. فقالت: «إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ»:

1: تصل رحمك،

2: وتصدق كلامك،

3: وتحمل المتعب الذي أصابه الكلل، فتعينه بمالك أو تحمله بقوتك.

4: وتطعم الضيف فتكرمه.

5: وتعين على نوائب الحق، أي: تعين الناس فيما تقع بهم من مصائب الدهر.

هذه صورة محمد ـ بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر بن مالك بن النَّضر بن كنانة الذي هو قريش ـ في عيني زوجه سيدة نساء العالمين.

وبعد أن قصت علينا أُمُّنا عائشة كيف طمأنت أُمُّنا خديجةُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: «ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ ـ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا ـ وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْإِنْجِيلِ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ. وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ. فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا رَأَى».

فقال ابنها العبد الفقير إلى رحمة مولاه: هذا النص من عائشة يشير إلى أنها كانت سرَّ أبيها الصِّديق ـ رضي الله عنه ـ في معرفة الأنساب، فهي تسرد نسب ورقة بن نوفل إلى قصي بن كلاب. وهو مما لم يُعهد عن الرواة في نقلهم أخبار الأشخاص، فربما اكتفوا باسم الشخص واسم أبيه. وقد قال رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لحسان بعد أن أمره بهجاء قريش: «لَا تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَباً حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي»([14]).

وعلّلت أُمُّنا عائشة لجوء خديجة، إلى ابن عمها ورقة من دون الناس، بعلتين: أولاهما أنه يعلم من علم أهل الكتاب، ما قرأه لدى الأحبار والرهبان من صفة رسول الله الذي جاء أوان بعثته، وكان ورقة ينتظره. وثاني العلل أنه شيخ كبير لا إرب له في النساء، إضافة إلى كونه أعمى.

وقال ابنها العبد الفقير إلى رحمة مولاه: وفي هذا بيان بفضيلة أُمّنا خديجة في عين أُمّنا عائشة، عليهما وآل البيت سلام الله مولاي، كلما حلَّ ذكرهما في مجلس، أو ذكرهما القلب في خلوة.

وإذن فقد انطلقت أُمّنا القديسة بزوجها رسول الله إلى ابن عمها ورقة، فطلبت منه أن يسمع ما يقوله زوجها صلى الله عليه وسلم، فخاطبته تقول: «أَيْ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ»: فنادته بقرابتها إليه، لِتُحَنِّنَ قلبه على زوجها. ووصفت زوجها بأنه ابن أخيه، وذلك لأنهما من نسب واحد، يلتقي في الجد المشترك «قصي بن كلاب»: فعبد الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ بن كلاب، هو أخو عبد مناف بن قصي بن كلاب، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فسأل ورقةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: «ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى»؟ فناداه كما أرادت أُمُّنا القديسة خديجة عليها سلام الله، أي: يا ابن أخي، ماذا ترى مما جاءك؟ اشرح لي.

فقص عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القصص.

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: هذا ما كان من قول رسول الله محمد ـ بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر بن مالك بن النَّضر بن كنانة الذي هو قريش ـ لوَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ بن كلاب.

قال ورقة: «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى».

وقال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: قد سبق أن قالت أُمّنا عائشة ـ عليها سلام الله ـ في أول الحديث، إن ورقة بن نوفل: «كَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ». فإن سأل سائلٌ: فلم إذن قال ورقةُ عن الوحي: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى؟ ولِمَ لمْ يَقُلْ، باعتباره نصرانياً: هذا الناموس الذي أُنزل على عيسى؟  أفلم يكن يؤمن بنزوله على عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو نبيهم؟ أجبنا ـ ابتداءً وقبل كل كلام ـ بنفي أن يُنكر ورقةُ ناموسَ عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أن يعتبره إلهاً، أو ابنَ الإله، كما يرى النصارى.

ولو كان ورقةُ على اعتقاد النصارى في ذلك، لَمَا فارق دينهم، ولما عُدَّ من الحنفاء، ولَمَا انتظر بعثة النبي الهادي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكلِّ هذا الشوق، ولَمَا وعدَهُ بالانتصار له. بل لما عُدّ ـ رضي الله عنه ـ من الصحابة.

وإنما تردّدَّ من تردَّدَ، من الناس، في إثبات صحبة ورقة، لأنه مات في الفترة التي تلت انقطاع الوحي بعد ابتدائه، وهي الفترة التي تلت نزول ﴿اقرأ﴾ وقبل نزول ﴿المزمل﴾ ثم ﴿المدثر﴾: التي قال الله فيها لرسوله: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾. فلم يعلن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعوته، إلا وكان ورقة قد توفي، رضي الله عنه وأرضاه.

ولا التفات ـ ها هنا ـ للتعريفات المتأخرة للصحبة والصحابة: فتلك تعريفاتٌ اقتضاها وضع الضوابط لتعريف مفهوم الصحبة والصحابي، لغرض نقل الحديث عنه. ودليل ذلك أن لو أسلم شخصٌ لم نعرف خبر قدومه مسلماً على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما عددناه صحابياً، ولظلَّ صحابياً عند الله. فنحن على سبيل المثال لا نعرف اسم الأعرابي الذي جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله:

«أسْأَلُكَ برَبِّكَ ورَبِّ مَن قَبْلَكَ، آللَّهُ أرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فقالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ في اليَومِ واللَّيْلَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ تَأْخُذَ هذِه الصَّدَقَةَ مِن أغْنِيائِنا فَتَقْسِمَها علَى فُقَرائِنا؟ فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فقالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بما جِئْتَ به»([15]).

فلما كان ذلك كذلك، أمكننا القول، بأن ورقة كان يرى في رسالة عيسى مكملة لرسالة موسى: فموسى صاحب الوحي والألواح، وعيسى مُتَمِّمٌ. فبدأ ورقة بإعلان وحي موسى، لأنه الأعظم. وهو قول أهل الإسلام والنصارى، ودلَّ عليه جمهور آيات التنزيل العزيز، من مثل قوله تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصف/6).

ويكفيك في ذلك ما قاله الله:

﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الأحقاف/29 ــ 30).

فحكى التنزيل مقولة الجن المؤمن، كمقولة ورقة؛ ثم لم ينكرها عليهم.

وقد علم كلُّ من أراد الله به الخير، أن وحي محمد مُصَدِّقٌ لوحي موسى ـ صلى الله عليهما وسلم ـ ولكل وحيٍ سبقه وتبعه. لكن الفرق بين وحينا ووحييهما أن الإنجيل جاء مصدقاً تابعاً للتوراة، كونه نزل على نفس القوم، قوم بني إسرائيل، خاصاً بهم. أما وحي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد جاء ناسخاً مزيلاً لما تبقى من أحكام التوراة وما تبعها من الإنجيل، كونه للعالمين طُرّاً. وهو التعبير الذي اختُصَّ الله به وحيه إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ قال:

﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ (المائدة/48).

قال ورقة: «يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعاً»:

وقال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: هكذا ورد في الأصول بنصب «جَذَعاً». وجاء في روايات أخرى «جَذَعٌ» بالرفع. فأما الرفع، فواضح: على اعتباره خبر «ليت». وأما النصب، فيبدو لي أنه لغةٌ أخرى من لغة قريش، لم يُحسن مؤسسو علم النحو ـ في العصر العباسي ـ استنباط  قاعدتها، فسموها شاذاً، فيما هم الشاذون. ورحم الله شيخ الإسلام حين قال لأبي حيان: "ما كان سيبويه نبيَّ النحو، ولا كان معصوماً، بل أخطأ في «الكتاب» في ثمانين موضعاً"([16]).

ولما أعيا إعرابُ هذا اللفظ ـ «جَذَعاً» ـ بحث له بعض أهل الحديث، عن تخريج: فقال بعضهم: هو منصوب على تقدير «كان» المحذوفة. فكأن قد أراد أن يقول: «يا ليتني أكون جذعاً». وقيل: منصوب على الحال([17]).

وقال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: ولا أرى ذلك إلا تَمَحُّلاً. فلغة قريش هي أفصح اللغات، وبها نزل القرآن. وكل محاولة للبحث عن لغات بائدة، في الكتاب أو السنة، بؤسٌ يدلُّ على أهله. وحسبك ما تراه من انتحالهم الشواهد، لتفسير كل آية لم يحسنوا استنباط قاعدتها.

وإذن فقد تنبأ ورقةُ بأن المشركين سيُلْجِئون رسو الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هجرة موطنه. فقال رسول الله متعجباً مفجوعاً: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ»؟

ألا وإن كل هجرة للوطن فجيعة، نعرف ذلك من هذا السؤال المستنكر: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ»؟

ولو تأملنا في أحد معاني قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ (القصص/85) النازل على رسول الله في طريق هجرته من مكة، لأمكننا تصور خير الخلق يركب راحلته صوب المدينة، ويتلفت وراءه بين الفينة والأخرى، مصوباً النظر إلى خير بلاد الله، فيسري مولاه عن قلبه الملتاع بهذا التنزيل، الذي يعني أن ستعود.

ولكن هل أخرجوه حقاً كما هو ظاهر اللفظ هنا وفي الآيات العدة؟ فإن كانوا قد أخرجوه، فكيف لم تصبهم سنة الله في الذين أخرجوا الرسل؟ أو لم يقل ربنا سبحانه وتعالى:

﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً* سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾ (الإسراء/76 ــ 77)؟

أوليس إهلاك مخرجي الأنبياء سنة إلهية لا تتخلف؟ فهل أخرجوه وتخلفت السنة الإلهية عن التحقق؟

فقال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: كلا، لقد أرادوا أن يُخرجوه، وخططوا لذلك، بل همّوا بقتله، لكنه لم يخرج ولم يقتلوه، إلا بعد أن أمره ربه أن يخرج. وما أخرجه ربه إلا ضَنَّاً بقريش أن يهلكهم الله.

لقد أراد ألا يهلكوا، فأمر نبيه بالهجرة من بينهم. وكلُّ لفظ في القرآن أو السنة يقول إنهم أخرجوه، يجب تأويله إلى معنى: أنهم أرادوا ذلك فأخرجه ربه. لأن ثمة ها هنا نصاً من سورة الإسراء يقول بأنهم كادوا أن يخرجوه.

وبما أن آيات القرآن كلها من كلام الله، فلا يمكن أن تتعارض:

لقد قال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ (محمد/13)﴾ فكان قولاً حقاً.

وقال كذلك: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الإسراء/76) فكان قولاً حقاً.

ولا يتعارض حقان. فكان لا بد من تأويل يدلنا على المراد الحقيقي، بما يجمع بين القولين باعتبارهما قولاً واحداً. فكان هذا: قد حاولوا إخراجه، وكتب الله لهم أن يكونوا ذخيرة الإسلام وسادة الفاتحين، فأخرج رسوله من بينهم، أن يخرجوه فيدمدم عليهم ربهم.

فأي لوعة في جملة الرسول: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ»؟ وأيُّ استقراء لتاريخ الدعوة في جملة ورقة: «لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ»

ويجب التنبه ها هنا إلى أن عبارة ورقة لم تجزم بأن كل نبي هاجر، ولكنها جزمت بأن كل نبي عودي. فقد يكون ورقة قد فهم، مما قرأ في كتب أهل الكتاب، أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيهاجر، لأن قومه سيمحضونه العداء، فيستعين عليهم بقوم آخرين. وقد رأينا في وصية الراهب الحق لسلمان الفارسي، بأن هذا أوان بعث نبيٍّ مهاجره بلد له صفة كذا وكذا. وهذا هو النص:

قال الراهب لسلمان قبيل موته:

«أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ، عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ، آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ؛ وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، مُهَاجِراً إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلامَاتٌ لا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ استَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ»([18]).

رجعنا إلى رد ورقة على تساؤل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، من قوله: «نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّراً».

قال العبد الفقير إلى رحمة مولاه: وهذا استقراءٌ عامٌّ لما قَرَأَهُ ورقةُ ـ رضي الله عنه ـ في كتب أهل الكتاب، مما علمه من سيرة الرسل؛ ووعدٌ منه له بالدعم، بعد أن صدقه الآن. ولكنه مات ـ رضي الله عنه ـ فكتب الله له أجر نِيَّتِهِ إن شاء، تاماً غير منقوص. وتلك العطايا والأفضال يمنحها الله من يشاء من عباده: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنعام/83).

اللهم اجعلنا وإياكم منهم.

وكذا هو الأمر مع أتباع الرسل كذلك، يراهم الناس مُذَكِّريهم بما يخشون أن يُحاسَبوا عليه، فَيَوَدُّوا ألا يسمعوا على ألسنتهم حُجَّةَ الله، وقد سوَّلَ لهم الشيطانُ، أن سيكون باستطاعتهم حينئذ أن يقولوا لله يوم القيامة: ما جاءنا من رسول.

هذا هو ـ عندي ـ بعضُ ما يفسر قسوة المتدينين الكاذبين على الدعاة إلى الله، أكثر من المجاهرين بالكفر. لا يأتي رسول قومه بالذكرى إلا عودي. وأما من أراد الله به الخير، فقوله هو ما قاله ورقة: «وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّراً». ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (العنكبوت/6).

قالت أُمّنا عائشة الصِّدِّيْقَةُ بنتُ الصِّدِّيق، عليها سلامُ الله وعلى أبيها رضوانه: «ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ».

أي لم يلبث أن توفي.

وإلى هنا تنتهي رواية أُمِّنا لحديث بدء الوحي، في الصحيحين.

وهكذا توفي الحنيف ورقة ـ رضي الله عنه ـ قبل أن يؤمر رسولُ الله بالبلاغ، فمات على نية التبليغ، بعد أن أعلن الإسلام والصحبة.

ولقد كان حنفاءُ مثل ورقة ينتظرون بعثة النبيِّ الأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم: فمنهم من مات على نِيَّتِهِ، لم نعلم ما يجري له عند ربه؛ ومنهم من يُبعَثُ يوم القيامة أُمَّةً وحده، وهو زيد بن عمرو بن نفيل؛ ومنهم من أدركته البعثة فكذب بها، كأُمَيَّة بن الصلت، وأبي عامر الراهب عبد عمرو بن صيفي بن مالك (الفاسق)؛ ومنهم ورقةُ هذا الذي أراد الله به منتهى الخير، فقدّر له، وكتب له، أن تكتحل عيناه برؤية الرسول، فيصدق به، ويعقد قلبه على الجهاد تحت لوائه، فمات على ذلك:

﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (القصص/68).

ولكنه مات قبل أن يؤمر رسول الله بالبلاغ. فأسرَّ الإيمان والتصديق، كما فعل رسول الله، ولو أن شهد نزول البلاغ في قوله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴿1﴾ قُمْ فَأَنْذِرْ﴿2﴾ لقام واتبع وأعلن.

والله أعلم.

 

[1]ـ متفق عليه. واللفظ للبخاري.

[2]ـ اللفظ للبخاري.

[3]ـ صحيح مسلم بشرح النووي. ج2. ص199

[4]ـ سيرة ابن هشام. ج1. ص267 ــ 268

[5]ـ فتح الباري. ج12. ص357

[6]ـ انظر: صحيح مسلم بشرح النووي. ج2. ص199

[7]ـ صحيح مسلم بشرح النووي. ج2. ص199

[8]ـ صحيح مسلم بشرح النووي. ج2. ص199

[9]ـ انظر: فتح الباري. ج12. ص357

[10]ـ انظر: صحاح الجوهري. مادة: بدر.

[11]ـ الفيومي. مادة: زملته.   

[12]ـ صحيح مسلم بشرح النووي. ج2. ص200

[13]ـ متفق عليه بلفظه.

[14]ـ صحيح مسلم.

[15]ـ متفق عليه. واللفظ للبخاري.

[16]ـ ابن حجر العسقلاني. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. ج1. ص92

[17]ـ انظر: صحيح مسلم بشرح النووي. ج2. ص302 ــ 303

[18]ـ  مسند أحمد. ج5. ص441. حديث رقم: 23788 حسنة شعيب الأرنؤوط