• سياسة
  • 2305 قراءة
  • 10:49 - 26 أكتوبر, 2014

عماء الأيديولوجيا

  



الأيديولوجيا منظومة أفكار مصوغة في برنامج عمل، يصر على التطبيق في واقع الحياة المجتمعية. فالذين صاغوا هذه الأفكار ونظموها هم مجموعة بشرية، ترى أنها الأقدر على إصلاح الواقع وتغييره نحو الأفضل.


تنشئ الأيديولوجيا ثلاث طبقات: طبقة واضعي التعاليم أو الفلاسفة، وطبقة مفسري هذه التعاليم، وطبقة الشعب الذي عليه أن يستجيب لتطبيق هذه التعاليم على حياته.


فأما واضعو التعاليم، فقد وضعوها في مرحلة تاريخية زمنية معينة، وفي واقع دنيوي جغرافي معين.


وأما مفسرو التعاليم فهم في الغالب مجموعة من الذين يعيشون في زمن مختلف، وربما في مكان مختلف.


وأما الشعب فلا حيلة له إلا أن يقبل بكل ما تقوله التعاليم، وكل ما يقوله مفسروها.


من هنا يتحول واضعو التعاليم ــ بعد مدة ــ إلى آلهة تتعالى مقولاتها على الفحص والمراجعة. ويتحول مفسرو هذه التعاليم إلى طبقة كهنوت، هي المخولة وحدها بمعرفة مراد الآلهة هذه. ويبقى الشعب حقلاً لتجارب المفسرين، وكلما تبين خطؤهم أنحوا باللائمة على الخارج.


لا تعترف الأيديولوجيا بأن تعاليمها تحتاج إلى إعادة فحص، لأنها تعتقد أنها الحقيقة المطلقة: فأنت لا تستطيع إقناع دعاة الإسلام السياسي، بأن دين الله الحق قد قرر بأننا أعلم الناس بأمور دنيانا. كما لا تستطيع إقناع الماركسيين بلا جدوى دكتاتورية الطبقة العاملة.


لا تعترف الأيديولوجيا برأي الشعب، لأنها ترى أنها الأقدر والأعلم والأحكم في معرفة مصالح الشعب. إنها تريد إصلاحهم رغم أنوفهم، كما لو كانوا مجموعة دواب لا تعرف أين تحط أقدامها. من هنا فكل حديث يتحدثه الأيديولوجي عن الديموقراطية، إنما هو ضلال في أفضل أحواله، أو كذب وتزوير واحتيال في غالب الأحوال. ويمكن لنا في هذا المجال تأمل تجربة الحكم الديموقراطي الشعبي لدى ستالين، وحكم الدولة الدينية في أفغانستان وغزة.


حين تنتقل الأيديولوجيا من صفوف المعارضة إلى سدة الحكم، يكون منطقها الكلامي قد وصل إلى حدوده القصوىٰ، ويصبح مطلوباً منه أن يتحقق على أرض الواقع. وهنا يبدأ الانهيار التدريجي، كما يقول جاك ديريدا. ومن هنا كان صحيحاً جداً القول بأن الأيديولوجيا نوع من الوعي الزائف. وإن شئت فانظر كيف يتراجع حكام غزة عن مشروع العدالة الاجتماعية، الذي طالما وعدونا به.


إن تفكير الأيديولوجيا هو وعي زائف بالقطع، لأنه منعدم الصلة بالواقع. صحيح أنه ربما كان ذات يوم يعبر عن واقع، في مكان ما، لكن هذا الواقع لم يعد دنيوياً، ولم يعد تاريخياً، ولم يعد مكانياً.


1ــ فهو غير دنيوي، لأنه تحول ــ بفعل التقديس والنقل والتفسير والقدم ــ إلى نوع من الميثيولوجيا المتعالية، المزدحمة بالآلهة، وأنصاف الآلهة، والأبطال الأسطوريين، الذين لم يعد لهم مكان في هذه الدنيا. وإن شئت أن ترى مثالاُ، فنظر حولك كيف يُذكر اسم (ماركس) أو (حسن البنا) بتقديس يقارب تقديس رب السماء والأرض.


2ــ وهو غير تاريخي، لأنه لا يجيب على سؤال الحاضر. فالتاريخي هو ما يفرزه وعي حقبة ما ليعبر عن حاجاتها. أما التفكير الأيديولوجي فيعبر عن وعي مجموعة لا تنتمي إلى هذه الحقبة.


3ــ وهو غير مكاني، لأنه ناتج مكان آخر من أمكنة الدنيا، ويراد له أن يطبق في مكان مختلف، بغض النظر عن اختلاف الجغرافيا.


إنه وعي زائف ــ مرة أخرى ــ لأنه نابع من فكرة مسبقة، تطالب بالتحقق، رغم رفض الواقع.


يفترض في أية نظرية، تريد التحقق في الواقع، أن ترى إلى هذا الواقع، فتصوغ أفكارها تبعاً له، وانطلاقاً منه، وإجابة لأسئلته. وفي طريقها الدنيوي للتطبيق، سوف تواجه هذه المقولات النظرية، حقائق جديدة لم تكن في الحسبان. ولأن الأيديولوجيا ــ كبرنامج ــ لا تستطيع أن تحيد عن الخط المرسوم مسبقاُ، فإنها تعجز عن الاستجابة لهذا الواقع، الذي لم يكن في حسبانها، حين أنشأت مقولاتها الأولى.


هنا تنظر الأيديولوجيا إلى ما يحدث على الأرض، نظرة إنكار، فتراه غير حقيقي، لأنه غير معبر عن إرادة النظرية. وهنا تصر طبقة مفسري النظرية على خطأ الواقع، أو تقرؤه قراءة مبتسرة. وهنا تنقطع النظرية عن الجماهير، التي زعمت أنها ما جاءت إلا لتلبي طموحاتها.


هنا تفشل النظرية برمتها، لأنها لو كانت واقعية، لانبثقت منها مقولات جديدة، تتواءم مع الواقع، وتجيب على أسئلة الحاضر. أي أن النظرية، التي لا تستطيع مواءمة مقولاتها مع الواقع، هي نظرية خاطئة منذ البدء. ومن هنا كانت صحيحة جداً مقولة الماركسيين بأن التطبيق جزء من النظرية لا ينفصم عنها.


أيها السادة،


كانت الحقبة الماضية فرصة لاختبار الأيديولوجيا الماركسية، فسقطت في الاختبار، وانكفأت على نفسها، تراجع الكثير من مقولاتها، وتحاول تجديد شبابها بمقولات جديدة، تقترب من الواقع. ولا شك أن هذا يُحسب للنظرية، لا عليها.


أما هذه الحقبة، فهي حقبة اختبار أيديولوجيا الإسلام السياسي. وإنه لمن غير المحزن أن تصل هذه الأيديولوجيا إلى الحكم، فتسقط سريعاً في أول اختبار لها.


وإذا كان جميلاً أن الماركسيين يحاولون تجديد النظرية برفدها بالواقع، فإنه لمن غير الطريف، ولا المسلي، أن الإسلاميين لا يفكرون في مراجعة الأخطاء، ويكتفون بإلقاء اللوم على الخارج. فليتهم كانوا أقل ألوهية مما هم عليه. فلقد بدا لنا الماركسيون الآن أقل مادية مما كانوا عليه.


وفي الختام أقول: لا مكان في حركة المجتمعات للكهنوت. لا مكان لمن يريد أن يحكمك لمصلحته، ثم يستخدم الشعار في سبيل هذه المصلحة. فلقد شبت جماهير هذه الأمة عن الطوق، من يوم أن رأت بؤس الأيديولوجيا.